الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (35) قوله تعالى: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة : هذه الجملة معطوفة على جملة: "إذ قلنا" لا على "قلنا" وحده لاختلاف زمنيهما، و"أنت" توكيد للضمير المستكن في "اسكن" ليصح العطف عليه، و"زوجك" عطف عليه، هذا مذهب البصريين ، أعني: اشتراط الفصل بين المتعاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميرا مرفوعا متصلا، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيدا، [بل] أي فصل كان، نحو: ما أشركنا ولا آباؤنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 279 ]

                                                                                                                                                                                                                                      365 - قلت إذا أقبلت وزهر تهادى كنعاج الفلا تعسفن رملا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع بعضهم أن يكون "زوجك" عطفا على الضمير المستكن في "اسكن" وجعله من عطف الجمل، بمعنى أن يكون "زوجك" مرفوعا بفعل محذوف، أي: ولتسكن زوجك، فحذف لدلالة "اسكن" عليه، ونظره بقوله تعالى: لا نخلفه نحن ولا أنت وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكأن شبهته في ذلك أن من حق المعطوف حلوله محل المعطوف عليه، ولا يصح هنا حلول "زوجك" محل الضمير؛ لأن فاعل فعل الأمر الواحد المذكر (نحو: قم واسكن) لا يكون إلا ضميرا مستترا، وكذلك فاعل نفعل، فكيف يصح وقوع الظاهر موقع المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي زعمه ليس بشيء لأن مذهب سيبويه بنصه يخالفه، ولأنه لا خلاف في صحة: "تقوم هند وزيد"، ولا يصح مباشرة زيد لـ"تقوم" لتأنيثه.

                                                                                                                                                                                                                                      والسكون والسكنى: الاستقرار.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه: المسكين لعدم استقراره وحركته وتصرفه، والسكين لأنها تقطع حركة المذبوح، والسكينة لأن بها يذهب القلق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 280 ] و"الجنة" مفعول به لا ظرف، نحو: سكنت الدار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي ظرف على الاتساع، وكان الأصل تعديته إليها بـ"في"، لكونها ظرف مكان مختص، وما بعد القول منصوب به.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكلا منها رغدا هذه الجملة عطف على "اسكن" فهي في محل نصب بالقول، وأصل كل: اأكل بهمزتين: الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فلو جاءت هذه الكلمة على هذا الأصل لقيل: اوكل بإبدال الثانية حرفا مجانسا لحركة ما قبلها، إلا أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفا فاستغنت حينئذ عن همزة الوصل فوزنه عل، ومثله: خذ ومر، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها، لا تقول من أجر: جر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ترد العرب هذه الفاء في العطف بل تقول: قم وخذ وكل، إلا "مر" فإن الكثير رد فائه بعد الواو والفاء قال تعالى: وأمر قومك و وأمر أهلك وعدم الرد قليل، وقد حكى سيبويه : "اؤكل" على الأصل وهو شاذ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : "حذفت النون من "كلا" [للأمر]" وهذه العبارة موهمة لمذهب الكوفيين من أن الأمر عندهم معرب على التدريج كما تقدم، وهو عند البصريين محمول على المجزوم، فإن سكن المجزوم سكن الأمر منه، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 281 ] و"منها" متعلق به، و"من" للتبعيض، ولا بد من حذف مضاف، أي: من ثمارها، ويجوز أن تكون "من" لابتداء الغاية وهو أحسن، و"رغدا" نعت لمصدر محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالا، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي: كلا طيبين مهنأين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "رغدا" بسكون الغين وهي لغة تميم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: كل فعل حلقي العين صحيح اللام يجوز فتح عينه وتسكينها نحو: نهر وبحر.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا فيه نظر، بل المنقول أن فعلا بسكون العين إذا كانت عينه حلقية لا يجوز فتحها عند البصريين إلا أن يسمع فيقتصر عليه، ويكون ذلك على لغتين لأن إحداهما مأخوذة من الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لغتين، وبعضه أصله السكون ويجوز فتحه قياسا، أما أن فعلا المفتوح العين الحلقيها يجوز فيه التسكين فيجوز في السحر: السحر فهذا لا يجيزه أحد.

                                                                                                                                                                                                                                      والرغد: الواسع الهنيء، قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      366 - بينما المرء تراه ناعما     يأمن الأحداث في عيش رغد



                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: رغد عيشهم بضم الغين وكسرها وأرغد القوم: صاروا في رغد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: حيث شئتما حيث: ظرف مكان، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة، وكانت حركتها ضمة تشبيها بـ "قبل" و"بعد".

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الكسائي إعرابها عن فقعس، وفيها لغات: حيث بتثليث الثاء [ ص: 282 ] وحوث بتثليثها أيضا، ونقل: حاث بالألف، وهي لازمة [الظرفية لا تتصرف، وقد تجر بمن كقوله تعالى: من حيث أمركم من حيث لا يعلمون وهي لازمة] للإضافة إلى جملة مطلقا ولا تضاف إلى المفرد إلا نادرا، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      367 - أما ترى حيث سهيل طالعا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      368 - ونطعنهم تحت الحبى بعد ضربهم     ببيض المواضي حيث لي العمائم



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تزاد عليها "ما" فتجزم فعلين شرطا وجزاء كإن، ولا يجزم بها دون "ما" خلافا لقوم، وقد تشرب معنى التعليل، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      369 - للفتى عقل يعيش به     حيث تهدي ساقه قدمه



                                                                                                                                                                                                                                      ولا دليل فيه لأنها على بابها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 283 ] والعامل فيها هنا "كلا" أي: كلا أي مكان شئتما توسعة عليهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء أن تكون بدلا من "الجنة"، قال: لأن الجنة مفعول بها، فيكون "حيث" مفعولا به" وفيه نظر لأنها لا تتصرف كما تقدم إلا بالجر بـ"من".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "شئتما": الجملة في محل خفض بإضافة الظرف إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل الكسرة التي على الشين أصل كقولك: جئتما وخفتما، أو محولة من فتحة لتدل على ذوات الياء نحو: بعتما؟ قولان مبنيان على وزن شاء ما هو؟ فمذهب المبرد أنه: فعل بفتح العين، ومذهب سيبويه فعل بكسرها ولا يخفى تصريفهما.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا تقربا هذه الشجرة لا ناهية، و"تقربا" مجزوم بها حذفت نونه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "تقربا" بكسر حرف المضارعة، والألف فاعل، و"هذه" مفعول به اسم إشارة المؤنث، وفيها لغات: هذي وهذه [وهذه] بكسر الهاء بإشباع ودونه، وهذه بسكونه، وذه بكسر الذال فقط، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية - ونقل أيضا عن النحاس - : وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير "هذه"، وفيه نظر؛ لأن تلك الهاء التي تدل على التأنيث ليست هذه؛ لأن تيك بدل من تاء التأنيث في الوقف، وأما [ ص: 284 ] هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث، بل الدال عليه مجموع الكلمة، كما تقول: الياء في "هذي" للتأنيث.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكمها في القرب والبعد والتوسط ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم "ذا" وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال فيها أيضا: تيك وتيلك وتلك وتالك، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      370 - تعلم أن بعد الغي رشدا     وأن لتالك الغمر انحسارا



                                                                                                                                                                                                                                      قال هشام: "ويقال: تا فعلت"، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      371 - خليلي لولا ساكن الدار لم أقم     بتا الدار إلا عابر ابن سبيل



                                                                                                                                                                                                                                      و"الشجرة" بدل من "هذه"، وقيل: نعت لها لتأويلها بمشتق، أي: هذه الحاضرة من الشجر.

                                                                                                                                                                                                                                      والمشهور أن اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتق كان نعتا له، وإن كان جامدا كان بدلا منه.

                                                                                                                                                                                                                                      والشجرة واحدة الشجر، اسم جنس، وهو ما كان على ساق بخلاف النجم، وسيأتي تحقيقهما في سورة (الرحمن) إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "الشجرة" بكسر الشين والجيم [ ص: 285 ] وسكون الجيم، وبإبدالها ياء مع فتح الشين وكسرها لقربها منها مخرجا، كما أبدلت الجيم منها في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      372 - يا رب إن كنت قبلت حجتج     فلا يزال شاحج يأتيك بج



                                                                                                                                                                                                                                      يريد بذلك حجتي وبي، وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      373 - إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى     فأبعدكن الله من شيرات



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عمرو: "إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها".

                                                                                                                                                                                                                                      وجمعت الشجر - أيضا - على شجراء، ولم يأت جمع على هذه الزنة إلا قصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء وحلفة وحلفاء، وكان الأصمعي يقول: "حلفة بكسر اللام" وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      وتقول: قربت الأمر أقربه بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي: التبست به، وقال الجوهري: "قرب بالضم يقرب قربا أي: دنا، وقربته بالكسر قربانا دنوت [منه] ، وقربت أقرب قرابة مثل: كتبت أكتب [ ص: 286 ] كتابة إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلتبس بالفعل، وإذا قيل: لا تقرب بالضم كان معناه: لا تدن منه".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فتكونا من الظالمين فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن يكون مجزوما عطفا على "تقربا" كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      374 - فقلت له: صوب ولا تجهدنه     فيذرك من أخرى القطاة فتزلق



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه منصوب على جواب النهي كقوله تعالى: ولا تطغوا فيه فيحل والنصب بإضمار "أن" عند البصريين ، وبالفاء نفسها عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين ، وهكذا كل ما يأتي مثل هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      و من الظالمين خبر كان.

                                                                                                                                                                                                                                      والظلم: وضع الشيء في غير موضعه ومنه قيل للأرض التي لم تستحق الحفر فتحفر: مظلومة، وقال النابغة الذبياني:


                                                                                                                                                                                                                                      375 - إلا أواري لأيا ما أبينها     والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 287 ] وقيل: سميت مظلومة لأن المطر لا يأتيها، قال عمرو بن قميئة:


                                                                                                                                                                                                                                      376 - ظلم البطاح له انهلال حريصة     فصفا النطاف له بعيد المقلع



                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: "من أشبه أباه فما ظلم"، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      377 - بأبه اقتدى عدي في الكرم     ومن يشابه أبه فما ظلم



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية