الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (48) قوله تعالى: واتقوا يوما : "يوما" مفعول به، ولا بد من حذف مضاف أي: عذاب يوم أو هول يوم، وأجيز أن يكون منصوبا على الظرف، والمفعول محذوف تقديره: واتقوا العذاب في يوم صفته كيت وكيت، ومنع أبو البقاء كونه ظرفا، قال: "لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة"، والجواب عما قاله: أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدية إلى العذاب في يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل اتقوا: اوتقوا، ففعل به ما تقدم في تتقون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا تجزي نفس عن نفس التنكير في "نفس" و"شيئا" معناه أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئا من الأشياء، وكذلك في "شفاعة" و"عدل"، والجملة في محل نصب صفة لـ"يوما" والعائد محذوف، والتقدير: لا تجزي فيه، ثم حذف الجار والمجرور؛ لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها، وهذا مذهب سيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل حذف بعد حرف الجر ووصول الفعل إليه فصار: "لا تجزيه" كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 336 ]

                                                                                                                                                                                                                                      435 - ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى الطعن النهال نوافله



                                                                                                                                                                                                                                      ويعزى للأخفش، إلا أن المهدوي نقل أن الوجهين المتقدمين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج.

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوبا قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      436 - وما أدري: أغيرهم تناء     وطول العهد أم مال أصابوا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير: يوما يوم لا تجزي نفس، فيصير كقوله تعالى: يوم لا تملك نفس ويكون اليوم الثاني بدلا من "يوما" الأول، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى: واسأل القرية وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائد لأن الظرف متى أضيف في الجملة بعده لم يؤت له فيها بضمير إلا في ضرورة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      437 - مضت مئة لعام ولدت فيه     وعشر بعد ذاك وحجتان



                                                                                                                                                                                                                                      و عن نفس متعلق بتجزي، فهو في محل نصب به، قال أبو البقاء : "ويجوز أن يكون نصبا على الحال".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ] والجزاء: القضاء والمكافأة، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      438 - يجزيه رب العرش عني إذ جزى     جنات عدن في العلالي العلى



                                                                                                                                                                                                                                      والإجزاء: الإغناء والكفاية، أجزأني كذا: كفاني، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      439 - وأجزأت أمر العالمين ولم يكن     ليجزأ إلا كامل وابن كامل



                                                                                                                                                                                                                                      قيل: وأجزأت وجزأت متقاربان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن الجزاء والإجزاء بمعنى، تقول منه: جزيته وأجزيته، وقد قرئ: "تجزئ" بضم حرف المضارعة من أجزأ، وجزأت بكذا أي: اجتزأت به، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      440 - فإن الغدر في الأقوام عار     وإن الحر يجزأ بالكراع



                                                                                                                                                                                                                                      أي: يجتزئ به.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "شيئا" نصب على المصدر، أي: شيئا من الجزاء; لأن الجزاء شيء، فوضع العام موضع الخاص، ويجوز أن يكون مفعولا به على أن "تجزي" بمعنى "تقضي"، أي: لا تقضي [نفس] من غيرها شيئا من الحقوق، والأول أظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 338 ] قوله: ولا يقبل منها شفاعة هذه الجملة عطف على ما قبلها فهي صفة - أيضا - لـ"يوما"، والعائد منها عليه محذوف كما تقدم، أي: ولا يقبل منها فيه شفاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"شفاعة" مفعول لم يسم فاعله، فلذلك رفعت، وقرئ: "يقبل" بالتذكير والتأنيث، فالتأنيث للفظ، والتذكير لأنه مؤنث مجازي، وحسنه الفصل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "ولا يقبل" مبنيا للفاعل وهو الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      و"شفاعة" نصبا مفعولا به.

                                                                                                                                                                                                                                      و " لا يؤخذ منها عدل " صفة أيضا، والكلام فيه واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      و"منها" متعلق بـ "يقبل" و"يؤخذ"، وأجاز أبو البقاء أن يكون نصبا على الحال؛ لأنه في الأصل صفة لشفاعة وعدل، فلما قدم عليهما نصب على الحال، ويتعلق حينئذ بمحذوف، وهذا غير واضح، فإن المعنى منصب على تعلقه بالفعل، والضمير في "منها" يعود على "نفس" الثانية؛ لأنها أقرب مذكور، ويجوز أن يعود على الأولى لأنها هي المحدث عنها، ويجوز أن يعود الضمير الأول على الأولى وهي النفس الجازية، والثاني يعود على الثانية وهي المجزي عنها، وهذا مناسب.

                                                                                                                                                                                                                                      والشفاعة مشتقة من الشفع، وهو الزوج، ومنه: الشفعة؛ لأنها ضم ملك إلى غيره، والشافع والمشفوع له؛ لأن كلا منهما يزوج نفسه بالآخر، وناقة شفوع: تجمع بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شافع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والعدل بالفتح الفداء، وبالكسر المثل، يقال: عدل [ ص: 339 ] وعديل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "عدل" بالفتح المساوي للشيء قيمة وقدرا، وإن لم يكن جنسه، وبالكسر: المساوي له في جنسه وجرمه، وحكى الطبري أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفداء، والأول أشهر، وأما عدل واحد الأعدال فهو بالكسر لا غير.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا هم ينصرون جملة من مبتدأ وخبر، معطوفة على ما قبلها وإنما أتي هنا بالجملة مصدرة بالمبتدأ مخبرا عنه بالمضارع تنبيها على المبالغة والتأكيد في عدم النصرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في قوله "ولا هم" يعود على النفس; لأن المراد بها جنس الأنفس، وإنما عاد الضمير مذكرا وإن كانت النفس مؤنثة لأن المراد بها العباد والأناسي، قال الزمخشري : "كما تقول: ثلاثة أنفس" يعني: إذا قصد بها الذكور، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      441 - ثلاثة أنفس وثلاث ذود      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 340 ] ولكن النحاة نصوا على أنه ضرورة، فالأولى أن يعود على الكفار الذين اقتضتهم الآية كما قال ابن عطية .

                                                                                                                                                                                                                                      والنصر: العون، والأنصار: الأعوان، ومنه: من أنصاري إلى الله والنصر أيضا: الانتقام، انتصر زيد أي: انتقم، والنصر أيضا: الإتيان، نصرت أرض بني فلان أتيتها، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      442 - إذا دخل الشهر الحرام فودعي     بلاد تميم وانصري أرض عامر



                                                                                                                                                                                                                                      وهو أيضا: العطاء، قال الراجز:


                                                                                                                                                                                                                                      443 - إني وأسطار سطرن سطرا     لقائل يا نصر نصر نصرا



                                                                                                                                                                                                                                      ويتعدى بـ"على"، قال: فانصرنا على القوم الكافرين وأما قوله: ونصرناه من القوم فيحتمل التعدي بـ"من" ويحتمل أن يكون من التضمين أي: نصرناه بالانتقام له منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية