الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (71) قوله تعالى: لا ذلول : المشهور "ذلول" بالرفع على أنها صفة لـ(بقرة)، وتوسطت "لا" للنفي كما تقدم في لا فارض أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: لا هي ذلول.

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل رفع صفة لـ(بقرة) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "لا ذلول" بفتح اللام على أنها "لا" التي للتبرئة والخبر محذوف، تقديره: لا ذلول ثم، أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه [ ص: 429 ] القراءة، ولذلك قال الأخفش: "لا ذلول نعت ولا يجوز نصبه".

                                                                                                                                                                                                                                      والذلول: التي ذللت بالعمل، يقال: بقرة ذلول بينة الذل بكسر الذال، ورجل ذليل بين الذل بضمها، وقد تقدم عند قوله: الذلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: تثير الأرض في هذه الجملة أقوال كثيرة، أظهرها أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "ذلول" تقديره: لا تذل حال إثارتها [الأرض] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة لـ(بقرة)، [أي] : لا ذلول مثيرة، وقال أيضا: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال لأنها من نكرة ، أما قوله: "في موضع الصفة" فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض، وهذا لم يقل به الجمهور، بل قال به بعضهم، وسيأتي بيانه قريبا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: لا يجوز أن تكون حالا يعني من "بقرة" لأنها نكرة، فالجواب: أنا لا نسلم أنها حال من (بقرة)، بل من الضمير في "ذلول" كما تقدم شرحه، أو نقول: بل هي حال من النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله لا ذلول وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنها مستأنفة، واستئنافها على وجهين، أحدهما: أنها خبر لمبتدأ محذوف أي: هي تثير، والثاني: أنها مستأنفة بنفسها من غير تقدير مبتدأ، بل تكون جملة فعلية ابتدئ بها لمجرد الإخبار بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع من القول باستئنافها جماعة، منهم الأخفش علي بن سليمان، وعلل ذلك بوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن بعده: ولا تسقي الحرث فلو كان مستأنفا لما صح دخول "لا" بينه وبين الواو.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها لو كانت تثير الأرض لكانت [ ص: 430 ] الإثارة قد ذللتها، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله: (لا ذلول)، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المعنى هو الذي منعت به أن يكون "تثير" صفة لـ(بقرة) لأن اللازم مشترك، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول من أثبت هذا الوجه يعني كونها (تثير) (ولا تسقي) أن تكون (تثير) في موضع رفع صفة لـ(بقرة).

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني بأن إثارة الأرض عبارة عن مرحها ونشاطها كما قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      545 - يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نباث الهواجر مخمس



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تثير الأرض مرحا ونشاطا لا حرثا وعملا، وقال أبو البقاء : وقيل: هو مستأنف، ثم قال: وهو بعيد عن الصحة، لوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه عطف عليه قوله: ولا تسقي الحرث فنفى المعطوف، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد، ألا ترى أنك لا تقول: مررت برجل قائم ولا قاعد، بل تقول: لا قاعد بغير واو، كذلك يجب أن يكون هنا، وذكر الوجه الثاني كما تقدم، وأجاز - أيضا - أن يكون "تثير" في محل رفع صفة لـ(ذلول) وقد تقدم لك خلاف: هل يوصف الوصف أو لا؟ فهذه ستة أوجه، تلخيصها: أنها حال من الضمير في "ذلول" أو من "بقرة" أو صفة لـ(بقرة) أو لـ(ذلول) أو مستأنفة بإضمار مبتدأ أو دونه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونها صفة لـ(بقرة) أو خبرا لمبتدأ محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : ولا الأولى للنفي يعني الداخلة على "ذلول" والثانية مزيدة لتوكيد [ ص: 431 ] الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لـ(ذلول)، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "تسقي" بضم التاء من أسقى.

                                                                                                                                                                                                                                      وإثارة الأرض تحريكها وبحثها، ومنه وأثاروا الأرض أي: بالحرث والزراعة، وفي الحديث: "أثيروا القرآن؛ فإنه علم الأولين والآخرين"، وفي رواية: "من أراد العلم فليثور القرآن".

                                                                                                                                                                                                                                      و(مسلمة) من سلم له كذا أي: خلص.

                                                                                                                                                                                                                                      و"شية" مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، فحذفت فاؤها لوقوعها بين ياء وكسرة في المضارع، ثم حمل باقي الباب عليه، ووزنها: علة، ومثلها: صلة وعدة وزنة، وهي عبارة عن اللمعة المخالفة للون، ومنه ثوب موشي أي منسوج بلونين فأكثر، وثور موشي القوائم أي: أبلقها قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      546 - من وحش وجرة موشي أكارعه     طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد



                                                                                                                                                                                                                                      ومنه: "الواشي" للنمام؛ لأنه يشي حديثه أي: يزينه ويخلطه بالكذب، وقال بعضهم: ولا يقال له واش حتى يغير كلامه ويزينه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، كل ذلك بمعنى البلقة، و"شية" اسم لا، و"فيها" خبرها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: الآن جئت : "الآن" منصوب بجئت، وهو ظرف زمان يقتضي الحال ويخلص المضارع له عند جمهور النحويين، وقال بعضهم: هذا هو [ ص: 432 ] الغالب وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال كقوله: فمن يستمع الآن فالآن باشروهن فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نص في الاستقبال، وعبر عنه هذا القائل بعبارة توافق مذهبه وهي: "الآن" لوقت حصر جميعه أو بعضه، يريد بقوله: "أو بعضه" نحو: فمن يستمع الآن يجد له وهو مبني.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في علة بنائه، فقال الزجاج : "لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى: أفعل الآن أي: هذا الوقت".

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد، من حيث إنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأن تضمن معنى حرف التعريف وهو الألف واللام كأمس، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ولم يعهد معرف بأل إلا معربا، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في الذي والتي وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو لازم للظرفية ولا يتصرف غالبا، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه السلام: "فهو يهوى في قعرها الآن حين انتهى" فالآن مبتدأ وبني على الفتح لما تقدم، و"حين" خبره، بني لإضافته إلى غير متمكن، ومجرورا في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      547 - أإلى الآن لا يبين ارعواء      . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 433 ] وادعى بعضهم إعرابه مستدلا بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      548 - كأنهما ملآن لم يتغيرا     وقد مر للدارين من بعدنا عصر



                                                                                                                                                                                                                                      يريد: "من الآن" فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض، وأن أصله آن بمعنى حان فدخلت عليه أل زائدة واستصحب بناؤه على الفتح، وجعله مثل قولهم: "ما رأيته مذ شب إلى دب" وقوله عليه السلام: "وأنهاكم عن قيل وقال"، ورد عليه بأن أل لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره، وعنه قول آخر أن أصله "أوان" فحذفت الألف ثم قلبت الواو ألفا، فعلى هذا ألفه عن واو، وقد أدخله الراغب في باب "أين" فتكون ألفه عن ياء، [والصواب الأول] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "قالوا الآن" بتحقيق [الهمزة] من غير نقل، وهي قراءة الجمهور، و"قال لان" بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحذف الهمزة، وهو قياس مطرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه، و"قالو لان" بثبوت الواو من قالوا لأنها إنما حذفت لالتقاء الساكنين، وقد تحركت اللام لنقل حركة الهمزة إليها، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر: "لحمر" وسيأتي تحقيق [ ص: 434 ] هذا إن شاء الله تعالى في عادا الأولى وحكي وجه رابع: "قالوا ألآن" بقطع همزة الوصل وهو بعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالحق" يجوز فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما أن تكون باء التعدية كالهمزة، كأنه قيل: أجأت الحق أي: ذكرته.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل "جئت" أي: جئت ملتبسا بالحق أو ومعك الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله وما كادوا يفعلون كاد واسمها وخبرها، والكثير في خبرها تجرده من أن، وشذ قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      549 - قد كاد من طول البلى أن يمحصا



                                                                                                                                                                                                                                      عكس عسى، ومعناها مقاربة الفعل، وقد تقدم جملة صالحة من أحكامها، وكون نفيها إثباتا وإثباتها نفيا، والجواب عن ذلك عند قوله: يكاد البرق فليلتفت إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية