الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (78) قوله تعالى: ومنهم أميون . "منهم" خبر مقدم، فيتعلق بمحذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أميون" مبتدأ مؤخر، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلا بالظرف قبله وإن لم يعتمد، وقد بينت على ماذا يعتمد فيما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      "وأميون": جمع أمي وهو من لا يكتب ولا يقرأ، واختلف في نسبته، فقيل: إلى الأم وفيه معنيان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه بحال أمه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شغلهن الكتابة.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ولم ينتقل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، بمعنى أنه ليس له من الناس إلا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف الأشياء كقولهم: عامي أي: على عادة العامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس: "قيل لهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة: "قيل لهم أميون لإنزال الكتاب عليهم كأنهم نسبوا لأم الكتاب".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة: "أميون" بتخفيف الياء، كأنه استثقل توالي تضعيفين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 446 ] قوله: لا يعلمون جملة فعلية في محل رفع صفة لـ(أميون)، كأنه قيل: أميون غير عالمين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا أماني هذا استثناء منقطع؛ لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهذا هو المنقطع، ولكن شرطه أن يتوهم دخوله بوجه ما كقوله: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وقول النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      556 - حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب



                                                                                                                                                                                                                                      لأن بذكر العلم استحضر الظن، ولهذا لا يجوز: صهلت الخيل إلا حمارا.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن المنقطع على ضربين: ضرب يصح توجه العامل عليه نحو: "جاء القوم إلا حمارا" وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحويون: "ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر" فالأول فيه لغتان: لغة الحجاز وجوب نصبه ولغة تميم أنه كالمتصل، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع، والآية الكريمة من الضرب الأول، فيحتمل نصبها وجهين، أحدهما: على الاستثناء المنقطع، والثاني: أنه بدل من (الكتاب) و"إلا" في المنقطع تقدر عند البصريين بـ"لكن" وعند الكوفيين بـ"بل".

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل محذوف، فإنه قال: إلا أماني استثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم، وتقدير "إلا" في مثل هذا بـ"لكن"، أي: لكن يتمنونه أماني، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرغ المنقطع، فيصير نظير: "ما علمت إلا ظنا"، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 447 ] والأماني جمع أمنية بتشديد الياء فيهما، وقال أبو البقاء : "يجوز تخفيفها فيهما".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حذف إحدى الياءين تخفيفا، قال الأخفش: "هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتح ومفاتيح"، قال النحاس: "الحذف في المعتل أكثر"، وأنشد قول النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      557 - وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى     ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حاتم : "كل ما جاء واحده مشددا من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان"، وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      ووزن أمنية: أفعولة من منى يمني إذا تلا وقرأ، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      558 - تمنى كتاب الله آخر ليله     تمني داود الزبور على رسل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال كعب بن مالك:


                                                                                                                                                                                                                                      559 - تمنى كتاب الله أول ليله     وآخره لاقى حمام المقادر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال تعالى: إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي: قرأ وتلا، فالأصل على هذا: أمنوية، فاعتلت اعتلال ميت وسيد، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: [ ص: 448 ] الأمنية الكذب والاختلاق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ما يتمناه الإنسان ويشتهيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ما يقدره ويحزره من منى إذا كذب أو تمنى أو قدر، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      560 - لا تأمنن وأن أمسيت في حرم     حتى تلاقي ما يمني لك الماني



                                                                                                                                                                                                                                      أي: يقدر لك المقدر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : والمني القدر، ومنه "المنا" الذي يوزن به، ومنه: المنية وهو الأجل المقدر للحيوان، والتمني: تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن ظن وتخمين، وقد يكون بناء على روية وأصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له، والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء، ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار التمني كالمبدأ للكذب [فعبر به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت"] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: والاشتقاق من منى إذا قدر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدرا مشتركا وهو واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإن هم إلا يظنون "إن" نافية بمعنى ما، وإذا كانت نافية فالمشهور أنها لا تعمل عمل "ما" الحجازية، وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه [ ص: 449 ] وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      561 - إن هو مستوليا على أحد     إلا على أضعف المجانين



                                                                                                                                                                                                                                      و"هو" اسمها و"مستوليا" خبرها، فقوله "هم" في محل رفع بالابتداء، لا اسم "إن" لأنها لم تعمل على المشهور، و"إلا" للاستثناء المفرغ، و"يظنون" في محل الرفع خبرا لقوله "هم" وحذف مفعولي الظن للعلم بهما، أو اقتصارا، وهي مسألة خلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية