الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (83) قوله تعالى: وإذ أخذنا : "إذ" معطوف على الظروف التي قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفا أو لا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أخذنا" في محل خفض، أي: واذكر وقت أخذنا ميثاقهم أو نحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا تعبدون قرئ بالياء والتاء، وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قرأ بالغيبة فلأن الأسماء الظاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب فهو التفات، وحكمته أنه أدعى لقبول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه، وجعل أبو البقاء قراءة الخطاب على إضمار القول.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وكونه التفاتا أحسن، وفي هذه الجملة المنفية من الإعراب ثمانية أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك أنه لما ذكر تعالى أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملة مفسرة له، ولا محل لها حينئذ من الإعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها في محل نصب على الحال من "بني إسرائيل" وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها حال مقدرة بمعنى أخذنا ميثاقهم مقدرين التوحيد أبدا ما عاشوا، والثاني: أنها حال مقارنة بمعنى: أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء ، وسبقه [ ص: 459 ] إلى ذلك قطرب والمبرد، وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافا لمن أجاز مجيئها من المضاف إليه مطلقا، لا يقال: المضاف إليه معمول في المعنى لميثاق؛ لأن ميثاقا إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلا أو مفعولا، وهو [غير] جائز؛ لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل لحرف مصدري وفعل، وهذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يصح، ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه : "هذا باب علم ما الكلم من العربية" أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورد وأنكر على من أجازه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون جوابا لقسم محذوف دل عليه لفظ الميثاق، أي: استحلفناهم أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرد.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف أن، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على أن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا، فحذف حرف الجر لأن حذفه مطرد مع أن وأن كما تقدم غير مرة، ثم حذفت "أن" الناصبة فارتفع الفعل بعدها ونظيره قول طرفة:


                                                                                                                                                                                                                                      568 - ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 460 ] وحكوا عن العرب: "مره يحفرها" أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن أحضر، وبأن يحفرها، وفيه نظر، فإن إضمار "أن" لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون وجعلوا ما سواها شاذا قليلا، وهو الصحيح خلافا للكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا حذفت "أن" فالصحيح جواز النصب والرفع، وروي: "مره يحفرها"، وأحضر الوغى بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافا لأبي الحسن حيث التزم رفعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وللبحث موضع غير هذا هو أليق به.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: "لا تعبدوا" على النهي.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون في محل نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم لا تعبدون إلا الله، ويكون خبرا في معنى النهي ويؤيده قراءة أبي المتقدمة، وبهذا يتضح عطف "وقولوا" عليه، وبه قال الفراء.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أن "أن" الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حيزها في محل نصب على أنها بدل من "ميثاق"، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم، أعني حذف "أن" في غير المواضع المقيسة.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: أن يكون منصوبا بقول محذوف، وذلك القول ليس حالا، بل مجرد إخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبرا في معنى النهي، قاله الزمخشري : كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال [ ص: 461 ] والانتهاء فهو يخبر عنه، وتنصره قراءة أبي وعبد الله: "لا تعبدوا" ولا بد من إرادة القول، انتهى، وهو كلام حسن جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن: أن يكون التقدير: أن لا تعبدون، وهي "أن" المفسرة؛ لأن في قوله: أخذنا ميثاق بني إسرائيل إيهاما كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذفت "أن" المفسرة، ذكره الزمخشري ، وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إلا الله استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكلام على نسقه لقيل: لا تعبدون إلا إيانا؛ لقوله "أخذنا".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الالتفات من الدلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضا الأسماء الواقعة ظاهرة فناسب أن يجاور الظاهر الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وبالوالدين إحسانا فيه خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أن تتعلق الباء بـ"إحسانا"، على أنه مصدر واقع موقع فعل الأمر، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين، والباء ترادف "إلى" في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثم مضاف محذوف، أي: وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برهما.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : يعترض هذا القول أن يتقدم على المصدر معموله، وهذا الذي جعله ابن عطية اعتراضا على هذا القول لا يتم على مذهب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المصدر النائب عن فعل الأمر عليه، تقول: ضربا زيدا، وإن شئت: زيدا ضربا، وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر أم للمصدر النائب عن فعله؛ فإن [ ص: 462 ] التقديم عندهم جائز، وإنما يمتنع تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل، كما تقدم بيانه آنفا، وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه يمنع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، وخالف الجمهور في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها متعلقة بمحذوف، وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مراعاة لقوله: لا تعبدون فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبرا مراعاة للفظ "لا تعبدون" والتقدير: وتحسنون، وبهذين الاحتمالين قدر الزمخشري ، وينتصب "إحسانا" حينئذ على المصدر المؤكد لذلك الفعل المحذوف، وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكد منصوص على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، فالباء تتعلق بهذا الفعل المقدر، وينتصب "إحسانا" حينئذ على أنه مفعول به.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: تقديره: ووصيناهم بالوالدين، فالباء متعلقة بالمحذوف أيضا، وينتصب "إحسانا" حينئذ على أنه مفعول من أجله، أي لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إن الإحسان متسبب عن وصيتنا بهم أو الموصى لما يترتب الثواب منا لهم إذا أحسنوا إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفا على قوله: لا تعبدون إذا قيل بأن "أن" المصدرية مقدرة، فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، فتتعلق الباء حينئذ بالميثاق لما فيه من معنى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه روائح الأفعال، وينتصب "إحسانا" حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف وهو البر؛ لأنه بمعناه أو الإحسان الذي قدرناه.

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر من هذه الأوجه [ ص: 463 ] إنما هو الثاني لعدم الإضمار اللازم في غيره، ولأن ورود المصدر نائبا عن فعل الأمر مطرد شائع، وإنما قدم المعمول اهتماما به وتنبيها على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذكر معه.

                                                                                                                                                                                                                                      والوالدان: الأب والأم، يقال لكل واحد منهما والد، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      569 - ألا رب مولود وليس له أب     وذي ولد لم يلده أبوان



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليبا للمذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      والإحسان: الإنعام على الغير، وقيل: بل هو أعم من الإنعام، وقيل هو النافع لكل شيء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وذي القربى وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء; لأنها من الأسماء الستة ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء، بشروط ذكرها النحويون، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها، عشرة مذاهب للنحويين فيها، ليس هذا موضع ذكرها، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة لفظا ومعنى إلى أسماء الأجناس ليتوصل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس، نحو: مررت برجل ذي مال، وإضافته إلى المضمر ممنوعة إلا في ضرورة أو نادر كلام كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      570 - صبحنا الخزرجية مرهفات     أبان ذوي أرومتها ذووها



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 464 ] وأنشد الكسائي:


                                                                                                                                                                                                                                      571 - إنما يعرف المعـ     ـروف في الناس ذووه



                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا قولهم: اللهم صل على محمد وذويه، وإضافته إلى العلم قليلة جدا، وهي على ضربين: واجبة وذلك إذا اقترنا وضعا نحو: ذي يزن، وذي رعين، وجائزة وذلك [إذا] لم يقترنا وضعا نحو: ذي قطري، وذي عمرو، أي: صاحب هذا الاسم، وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      572 - وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما     رجوناه قدما من ذويك الأفاضل



                                                                                                                                                                                                                                      وتجيء "ذو" موصولة بمعنى الذي وفروعه، والمشهور حينئذ بناؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة مذكورة في كتب النحو.

                                                                                                                                                                                                                                      و"القربى" مضاف إليه وألفه للتأنيث وهو مصدر كالرجعى والعقبى، ويطلق على قرابة الصلب والرحم، قال طرفة:


                                                                                                                                                                                                                                      573 - وظلم ذوي القربى أشد مضاضة     على الحر من وقع الحسام المهند



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا:


                                                                                                                                                                                                                                      574 - وقربت بالقربى وجدك إنه     متى يك أمر للنكيثة أشهد



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 465 ] والمادة تدل على الدنو ضد البعد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: واليتامى وزنه فعالى، وألفه للتأنيث وهو جمع يتيم كنديم وندامى ولا ينقاس هذا الجمع، واليتم: الانفراد، ومنه "اليتيم" لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: اليتم الإبطاء ومنه صبي يتيم؛ لأنه يبطئ عنه البر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو التغافل لأن الصبي يتغافل عما يصلحه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأصمعي: "اليتم في الآدميين من قبل فقد الآباء وفي غيرهم من قبل فقد الأمهات".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الماوردي: "إن اليتم في الناس - أيضا - من قبل فقد الأمهات" والأول هو المعروف عند أهل اللغة يقال: يتم ييتم يتما مثل: كرم يكرم وعظم يعظم عظما، ويتم ييتم يتما مثل: سمع يسمع سمعا، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء، ويقال: أيتمه الله إيتاما أي فعل به ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلامة الجر في القربى واليتامى كسرة مقدرة في الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأن ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته أل انجر بالكسرة، وهل يسمى حينئذ منصرفا أو منجرا؟ ثلاثة أقوال يفصل في الثالث بين أن يكون أحد سببيه العلمية فيسمى منصرفا نحو: "يعمركم" أو لا فيسمى منجرا نحو: بالأحمر، والقربى واليتامى من هذا الأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والمساكين" جمع مسكين، ويسمونه جمعا لا نظير له في الآحاد وجمعا على صيغة منتهى الجموع، وهو من العلل القائمة مقام علتين، وسيأتي تحقيقه قريبا في هذه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالا منه كقوله: [ ص: 466 ] مسكينا ذا متربة أي لصق جلده بالتراب بخلاف الفقير فإن له شيئا ما، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      575 - أما الفقير الذي كانت حلوبته     وفق العيال فلم يترك له سبد



                                                                                                                                                                                                                                      أو أكمل حالا لأن الله جعل لهم ملكا ما، قال: أما السفينة فكانت لمساكين خلاف مشهور بين العلماء من الفقهاء واللغويين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وقولوا للناس حسنا هذه الجملة عطف على قوله لا تعبدون في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على "أحسنوا" المقدر كما تقدم تقريره في قوله: وبالوالدين إحسانا وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولا لقول محذوف تقديره: "وقلنا لهم قولوا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: حسنا بفتحتين وحسنا بضمتين، وحسنى من غير تنوين كحبلى، وإحسانا من الرباعي.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة "حسنا" بالضم والإسكان فيحتمل أوجها:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها وهو الظاهر: أنه مصدر وقع صفة لمحذوف تقديره: وقولوا للناس قولا حسنا أي: ذا حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون وصف به مبالغة كأنه جعل القول نفسه حسنا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه صفة على وزن فعل وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، [ ص: 467 ] فيكون بمعنى "حسن" بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حسن وحسن كالبخل والبخل، والحزن والحزن، والعرب والعرب.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنه منصوب على المصدر من المعنى، فإن المعنى: وليحسن قولكم حسنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة "حسنا" بفتحتين وهي قراءة حمزة والكسائي فصفة لمحذوف، تقديره: قولا حسنا كما تقدم في أحد أوجه "حسنا".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "حسنا" بضمتين فضمة السين للإتباع للحاء فهو بمعنى "حسنا" بالسكون وفيه الأوجه المتقدمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من [قرأ] "حسنى" بغير تنوين، فحسنى مصدر كالبشرى والرجعى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام نحو: الكبرى والفضلى، هذا قول سيبويه ، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه لأن (أفعل وفعلى) لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدرا كالعقبى فذلك جائز وهو وجه القراءة بها، انتهى، وقد ناقشه الشيخ، وقال: في كلامه ارتباك؛ لأنه قال: لأن (أفعل وفعلى) لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      أما "أفعل" فله ثلاثة استعمالات:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أن يكون معه "من" ظاهرة أو مقدرة، أو مضافا إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يدخل عليه أل فيتعرف بها.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "فعلى" فلها استعمالان، أحدهما بالألف واللام، والثاني: الإضافة لمعرفة وفيها الخلاف السابق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدرا" [ ص: 468 ] ظاهر هذا أن فعلى أنثى أفعل إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدرا وليس كذلك، بل إذا زال عن فعلى أنثى أفعل معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها، ألا ترى إلى تأويلهم كبرى بمعنى كبيرة، وصغرى بمعنى صغيرة، وأيضا فإن فعلى مصدرا لا ينقاس، إنما جاءت منها أليفاظ كالعقبى والبشرى".

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله "عنها" عائد إلى "حسنى" لا إلى فعلى أنثى أفعل، ويكون استثناء منقطعا كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى التي قرأ بها أبي معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يعتقد أن "حسنى" مصدر لا أنثى أفعل، وقوله: "وهو وجه القراءة بها" أي: والمصدر وجه القراءة بها.

                                                                                                                                                                                                                                      وتخريج هذه القراءة على وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: المصدر كالبشرى وفيه الأوجه المتقدمة في "حسنا" مصدرا إلا أنه يحتاج إلى إثبات حسنى مصدرا من قول العرب: حسن حسنى، كقولهم: رجع رجعى، إذ مجيء فعلى مصدرا لا ينقاس.

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني: أن تكون صفة لموصوف محذوف; أي: وقولوا للناس كلمة حسنى أو مقالة حسنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الوصف بها حينئذ وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شذ استعمالها غير معرفة بـ(أل) ولا مضافة إلى معرفة كما شذ قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      576 - وإن دعوت إلى جلى ومكرمة     يوما سراة كرام الناس فادعينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      577 - في سعي دنيا طالما قد مدت      . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 469 ] والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، بل بمعنى حسنة نحو كبرى في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مقالة حسنة، كما قالوا: "يوسف أحسن إخوته" في معنى حسن إخوته، انتهى، وقد علم بهذا فساد قول النحاس.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من قرأ "إحسانا" فهو مصدر وقع صفة لمصدر محذوف أي قولا إحسانا، وفيه التأويل المشهور، وإحسانا مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة أي قولا ذا حسن، كما تقول: "أعشبت الأرض" أي: صارت ذا عشب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة تقدم نظيره.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ثم توليتم إلا قليلا قال الزمخشري : "على طريقة الالتفات" وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة "لا يعبدون" بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات البتة، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاب الحاضرين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل بذلك، ويؤيده قوله تعالى: إلا قليلا منكم قيل: يعني بهم الذي أسلموا في زمانه عليه السلام كعبد الله بن سلام وأضرابه، فيكون التفاتا على القراءتين.

                                                                                                                                                                                                                                      والمشهور نصب "قليلا" على الاستثناء؛ لأنه من موجب.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن أبي عمرو وغيره: "إلا قليل" بالرفع، وفيه ستة أقوال: أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل "إلا" وما بعدها بمعنى غير، وقد عقد سيبويه رحمه الله في ذلك بابا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه "إلا" وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا إلا رجل [ ص: 470 ] إلا زيد لغلبنا" و لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا و:


                                                                                                                                                                                                                                      578 - . . . . . . . . . . . .     قليل بها الأصوات إلا بغامها



                                                                                                                                                                                                                                      وسوى بين هذا وبين قراءة: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر برفع "غير"، وجوز في نحو: "ما قام القوم إلا زيد" - بالرفع - البدل والصفة، وخرج على ذلك قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      579 - وكل أخ مفارقه أخوه     لعمر أبيك إلا الفرقدان



                                                                                                                                                                                                                                      كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ:


                                                                                                                                                                                                                                      580 - وكل خليل غير هاضم نفسه     لوصل خليل صارم أو معارز



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد غيره:


                                                                                                                                                                                                                                      581 - لدم ضائع تغيب عنه     أقربوه إلا الصبا والجنوب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 471 ] وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      582 - وبالصريمة منهم منزل خلق     عاف تغير إلا النؤي والوتد



                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين الوصف بإلا والوصف بغيرها أن "إلا" توصف بها المعارف والنكرات والظاهر والمضمر، وقال بعضهم: "لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس فإنه في قوة النكرة".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المبرد: "شرطه صلاحية البدل في موضعه"، ولهذا موضع نتكلم فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه عطف بيان، قال ابن عصفور: "إنما يعني النحويون بالوصف بإلا عطف البيان"، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه مرفوع بفعل محذوف كأنه قال: امتنع قليل.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف أي: إلا قليل منكم لم يتولوا، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل منبني تميم خير منه.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنه توكيد للمضمر المرفوع، ذكر هذه الثلاثة الأوجه أبو البقاء ، قال: "وسيبويه وأصحابه يسمونه نعتا ووصفا"، يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ولكنها قد قيلت.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أنه بدل من الضمير في "توليتم" قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأن "توليتم" معناه النفي كأنه قال: "لم تفوا بالميثاق إلا قليل"، وهذا الذي ذكره من جواز البدل منعه النحويون، لا يجيزون: "قام القوم إلا زيد" على البدل، قالوا: لأن البدل يحل محل المبدل منه فيؤول إلى قولك: قام إلا زيد، وهو ممتنع، وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلا يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: "قام القوم إلا زيد" في قوة "لم يجلسوا إلا زيد" فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده [ ص: 472 ] كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون "قام القوم إلا زيد" بالرفع على الصفة كما تقدم تقريره.

                                                                                                                                                                                                                                      و"منكم" صفة لـ(قليلا) ، فهي في محل نصب أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاص لوصفه بقوله "منكم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، انتهى، وهذا قول بعيد جدا أو ممتنع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأنتم معرضون جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من فاعل "توليتم".

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها حال مؤكدة لأن التولي والإعراض مترادفان، وقيل: مبينة، فإن التولي بالبدن والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء : وقال بعده: وقيل: توليتم يعني آباءهم، وأنتم معرضون يعني أنفسهم، كما قال: وإذ أنجيناكم من آل فرعون أي: آباءهم، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا يؤدي إلى [أن] جملة قوله وأنتم معرضون لا تكون حالا؛ لأن فاعل التولي في الحقيقة ليس هو صاحب الحال، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: التولي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقا ورجع عوده على بدئه سمي ذلك توليا، وإن سلك في عرض الطريق سمي إعراضا وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة بـ"أنتم"؛ لأنه آكد.

                                                                                                                                                                                                                                      وجيء بخبر المبتدأ اسما؛ لأنه أدل على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي عن الحق والإعراض عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 473 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية