الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (88) قوله تعالى: قلوبنا غلف .

                                                                                                                                                                                                                                      مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب بالقول قبله، وقرأ الجمهور: "غلف" بسكون اللام، وفيها وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما وهو الأظهر: أن يكون جمع "أغلف" كأحمر وحمر وأصفر وصفر، والمعنى على هذا: أنها خلقت وجبلت مغشاة لا يصل إليها الحق؛ استعارة من الأغلف الذي لم يختتن.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون جمع [ ص: 501 ] "غلاف"، ويكون أصل اللام الضم فخفف نحو: حمار وحمر وكتاب وكتب، إلا أن تخفيف فعل إنما يكون في المفرد غالبا نحو عنق في عنق، وأما (فعل) الجمع فقال ابن عطية : "لا يجوز تخفيفه إلا في ضرورة"، وليس كذلك، بل هو قليل، وقد نص غيره على جوازه، وقرأ ابن عباس - ويروى عن أبي عمرو - بضم اللام وهو جمع "غلاف"، ولا يجوز أن يكون فعل في هذه القراءة جمع "أغلف" لأن تثقيل (فعل) الصحيح العين لا يجوز إلا في شعر، والمعنى على هذه القراءة أن قلوبنا أوعية للعلم فهي غير محتاجة إلى علم آخر، والتغليف كالتغشية في المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بل لعنهم الله "بل" حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمنه قولهم من أن قلوبهم غلف، فرد الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السابق.

                                                                                                                                                                                                                                      والإضراب على قسمين: إبطال وانتقال، فالأول نحو: ما قام زيد بل عمرو، ولا تعطف "بل" إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها "لا" تأكيدا.

                                                                                                                                                                                                                                      واللعن: الطرد والبعد، ومنه: شأو لعين أي بعيد: قال الشماخ.


                                                                                                                                                                                                                                      607 - ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين



                                                                                                                                                                                                                                      أي: البعيد، وكان وجه الكلام أن يقول: "مقام الذئب اللعين كالرجل".

                                                                                                                                                                                                                                      والباء في "بكفرهم" للسبب، وهي متعلقة بلعنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي : النية به التقديم أي: وقالوا: قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة بقالوا وتكون "بل لعنهم" جملة معترضة ، وفيه بعد، ويجوز أن تكون حالا [ ص: 502 ] من المفعول في "لعنهم" أي لعنهم كافرين أي: ملتبسين بالكفر كقوله: وقد دخلوا بالكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فقليلا ما يؤمنون في نصب "قليلا" ستة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها - وهو الأظهر -: أنه نعت لمصدر محذوف أي: فإيمانا قليلا يؤمنون.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف أي: فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه وتقدم تقريره.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانا قليلا يؤمنون، وهو كقوله: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنه على إسقاط الخافض، والأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجر انتصب، ويعزى لأبي عبيدة.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون حالا من فاعل "يؤمنون"، أي فجمعا قليلا يؤمنون أي المؤمن فيهم قليل، قال معناه ابن عباس وقتادة، إلا أن المهدوي قال: ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع "قليل".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: لا يلزم الرفع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لما تقدم من أن نصبه على الحال واف بهذا المعنى: و"ما" على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أن تكون "ما" نافية أي: فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا، ومثله: " قليلا ما تشكرون " " قليلا ما تذكرون " وهذا قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف شيئا من جهة تقدم ما في حيزها عليها، قاله أبو البقاء ، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أن تقديم [ ص: 503 ] ما في حيزها عليها لم يجزه البصريون ، وأجازه الكوفيون .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون "ما" مصدرية؛ لأن "قليلا" يبقى بلا ناصب، يعني أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعا بـ"قليلا" على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله كانوا قليلا من الليل ما يهجعون فإن "ما" هناك يجوز أن تكون مصدرية لأن "قليلا" منصوب بـ(كان)، وقال الزمخشري : "ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وما ذهب إليه من أن "قليلا" يراد به النفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: فقليلا ما يؤمنون لأن "قليلا" انتصب بالفعل المثبت فصار نظير "قمت قليلا" أي: قمت قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت وجعلت "قليلا" منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: "أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد"، وإذا تقرر هذا فحمل القلة على النفي المحض هنا ليس بصحيح، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: ما قاله أبو القاسم الزمخشري - رحمه الله - من أن معنى التقليل هنا النفي قد قال به الواحدي قبله، فإنه قال: "أي: لا قليلا ولا كثيرا، كما تقول: قلما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلا".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية