الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (89) قوله تعالى: من عند الله فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه في محل رفع صفة لـ(كتاب)، فيتعلق بمحذوف، أي كتاب كائن من عند الله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 504 ] والثاني: أن يكون في محل نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد الشيخ هذا الوجه فقال: "لا يقال إنه يحتمل أن يكون من عند الله متعلقا بجاءهم، فلا يكون صفة؛ للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما"، يعني أنه ليس معمولا للموصوف ولا للصفة فلا يغتفر الفصل به بينهما.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على رفع "مصدق" على أنه صفة ثانية، وعلى هذا يقال: قد وجد صفتان إحداهما صريحة والأخرى مؤولة، وقد قدمت المؤولة، وقد تقدم أن ذلك غير ممتنع وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بكينونته من عند الله آكد، وأن وصفه بالتصديق ناشئ عن كونه من عند الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة "مصدقا" نصبا، وكذلك هو في مصحف أبي، ونصبه على الحال، وفي صاحبها قولان، أحدهما أنه "كتاب"، فإن قيل: كيف جاءت الحال من النكرة؟ فالجواب: أنها قد قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهي من عند الله كما تقدم، على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شرط، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الضمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفة، والعامل فيها إما: [ ص: 505 ] الظرف أو ما يتعلق به على الخلاف المشهور، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      608 - لمية موحشا طلل يلوح كأنه خلل



                                                                                                                                                                                                                                      إن "موحشا" حال من "طلل"، وساغ ذلك لتقدمه، فقال: لا حاجة إلى ذلك، إذ يمكن أن يكون حالا من الضمير المستكن في قوله: "لمية" الواقع خبرا لـ(طلل)، وللجواب، عن ذلك موضع آخر.

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في لما معهم مقوية لتعدية "مصدق" لكونه فرعا، و"ما" موصولة، والظرف صلتها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكانوا يجوز فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أن يكون معطوفا على "جاءهم" فيكون جواب "لما" مرتبا على المجيء والكون.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون حالا أي: وقد كانوا، فيكون جواب "لما" مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله وهم كونهم يستفتحون.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وظاهر كلام الزمخشري أن "وكانوا" ليست معطوفة على الفعل بعد "لما" ولا حالا؛ لأنه قدر جواب "لما" محذوفا قبل تفسيره "يستفتحون"، فدل على أن قوله "وكانوا" جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما، وهذا هو الثالث.

                                                                                                                                                                                                                                      و من قبل متعلق بيستفتحون، والأصل: من قبل ذلك، فلما قطع بني على الضم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"يستفتحون" في محل النصب على خبر "كان".

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف النحويون في جواب "لما" الأولى والثانية، فذهب الأخفش والزجاج إلى أن [ ص: 506 ] جواب الأولى محذوف تقديره: ولما جاءهم كتاب كفروا به، وقدره الزمخشري : "كذبوا به واستهانوا بمجيئه" وهو حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الفراء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على لما، وهو عنده نظير فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف قال: ولا يجوز أن تكون الفاء ناسقة إذ لا يصلح موضعها الواو و"كفروا" جواب لما الثانية على القولين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء : في جواب لما الأولى وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: جوابها "لما" الثانية وجوابها، وهذا ضعيف لأن الفاء مع "لما" الثانية، و"لما" لا تجاب بالفاء إلا أن يعتقد زيادة الفاء على ما يجيزه الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: ولو قيل برأي الأخفش في زيادة الفاء من حيث الجملة فإنه لا يمكن ههنا لأن "لما" لا يجاب بمثلها، لا يقال: "لما جاء زيد لما قعد أكرمتك" على أن يكون "لما قعد" جواب "لما جاء"، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب المبرد إلى أن "كفروا" جواب "لما" الأولى وكررت الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده، وهو حسن، لولا أن الفاء تمنع من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء - بعد أن حكى وجها أول -: والثاني: أن "كفروا" جواب الأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الثانية تكرير فلم يحتج إلى جواب.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: "قوله: وقيل: الثانية تكرير" هو ما حكيت عن المبرد، وهو في الحقيقة ليس مغايرا للوجه الذي ذكره قبله من كون "كفروا" جوابا لهما بل هو هو.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فلعنة الله على الكافرين جملة من مبتدأ وخبر متسببة عما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      والمصدر هنا مضاف للفاعل، وأتى بـ"على" تنبيها على أن اللعنة قد [ ص: 507 ] استعلت عليهم وشملتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال: على الكافرين ولم يقل "عليهم" إقامة للظاهر مقام المضمر لينبه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية