الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 302 ] [ ص: 303 ] الفصل الرابع : في دلالة الأمر على المرة أو التكرار

                        ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة ، واختاره الحنفية والآمدي وابن الحاجب والجويني والبيضاوي .

                        قال السبكي : وأراه رأى رأي أكثر أصحابنا ، يعني الشافعية ، واختاره أيضا من من المعتزلة أبو الحسين البصري وأبو الحسن الكرخي ، قالوا جميعا جميعا : إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة ، فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به ، لا أن الأمر يدل عليها بذاته .

                        وقال جماعة : إأن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظا ، وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أكثر الشافعية . وقال إنه مقتضى كلام الشافعي وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء ، وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري وجماعة من قدماء الحنفية .

                        وقال جماعة : أإنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان ، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان .

                        وقال الغزالي في المستصفى : إن مرادهم من التكرار العموم ، قال أبو زرعة يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب المستوعب لزمان العمر ، وهو كذلك عند القائل ; لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة ، والنوم ، وضروريات الإنسان ، ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة [ ص: 304 ] على شرط أو صفة .

                        وقيل : إنها للمرة ، وتحتمل التكرار ، وهذا مروي عن الشافعي .

                        وقيل : بالوقف ، واختلف في تفسير معنى هذا الوقف ، فقيل : المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق ؟ ؟ وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها ، وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة ، وروي عن الجويني .

                        أدلة القائلين بأنه لمطلق الطلب

                        احتج الأولون : بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما ، إنما هو من المادة ، ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل ، فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط ، والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة ، لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها ، ولهذا يندفع ما احتج به من قال : إنها للمرة ، حيث قال : إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها ، وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءا من مدلول الأمر ; لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت عرفت .

                        واحتج الأولون أيضا : بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل ، والمرة والتكرار خارجان عن حقيقة ، فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ، ولا يتقيد بأحدهما .

                        واعترض واعترض على هذا : بأنه استدلال بمحل النزاع ، فإن منهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالمرة ، ومنهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالتكرار .

                        واحتجوا أيضا : بأن المرة والتكرار من صفات الفعل ، كالقلة والكثرة ، ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما .

                        واعترض واعترض على هذا : بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار ، والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا ؟ ؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما ، والمدعي إنما هو للدلالة ظاهرا لا نصا .

                        أدلة القائلين بدلالته على التكرار

                        واحتج القائلون بالتكرار : أنه تكرر المطلوب في النهي ، فعم فعم الأزمان فوجب [ ص: 305 ] التكرار في الأمر ; لأنهما طلب .

                        وأجيب : بأن هذا قياس في اللغة ، وقد تقرر بطلانه .

                        وأجيب : أيضا بالفرق بينهما ; لأن النهي لطلب الترك الترك ، ولا يتحقق إلا بالترك في كل الأوقات ، والأمر لطلب الإتيان بالفعل ، وهو يتحقق بوجوده مرة .

                        واعترض واعترض على هذا : بأنه مصادرة على المطلوب ; لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ للمخالف أن يقول هو للتكرار لا للمرة .

                        وأجيب عن أصل التكرار : بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به ; لأنه يستغرق جميع الأوقات ، ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر ، فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به ، وعن مصالح دينه ودنياه ، بخلاف النهي ، فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال .

                        واعترض واعترض على هذا : بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا ؟ ؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولا للصيغة ، فيجوز أن يكون اللفظ دالا على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته .

                        واستدل القائلون بالتكرار أيضا بأن الأمر نهى نهي عن أضداده ، وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه ، وهو - أي النهي - يمنع من المنهي عنه دائما ، فيتكرر الأمر في المأمور به إذا لو لم يتكرر ، واكتفى واكتفي بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات .

                        وأجيب : بأن تكرر النهي الذي تضمنه تضمنه الأمر فرع تكرر تكرر الأمر ، فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر .

                        واحتج من قال : بأنه يتكرر إذا كان معلقا معلقا على شرط أو صفة بأنه تكرر في نحو قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا .

                        وأجيب : بأن الشرط هنا علة ، فيتكرر المأمور به بتكررها ، اتفاقا ، ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته ، والنزاع إنما هو دلالة الصيغة مجردة .

                        قال الرازي في المحصول : أن صيغة " افعل " لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود ، فوجب أن لا تدل على التكرار ، ، بيان الأولى الأولى أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار ، كما في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة ومنها ما [ ص: 306 ] جاء على غير التكرار ، كما في الحج ، وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار ، فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار ، أو بشراء اللحم لم يعقل يعقل منه التكرار ، ولو ذمه السيد على ترك التكرار للأمة العقلاء ، ولو كرر العبد الدخول حسن حسن من السيد أن يلومه ، ويقول له : إني أمرتك بالدخول ، وقد دخلت دخلت ، فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول ، وقد يفيد التكرار ، فإنه إذا قال : احفظ دابتي ، فحفظها ثم أطلقها يذم يذم .

                        إذا ثبت هذا فنقول : الاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك المشترك بين الصورتين ، وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه ، وإذا ثبت ذلك ، وجب أن لا يدل على التكرار ; لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام ، والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار ، ولا على المرة الواحدة ، بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة ، فصارت المرة الواحدة من ضروريات الإتيان بالمأمور به ، فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ، ثم أطال الكلام استدلالا للمذهب الأول ، ودفعا لحجج المذاهب الآخرة بما قد تقدم حاصل معناه .

                        وإذا عرفت عرفت جميع ما حررناه ، تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه ، وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به .

                        هذا إذا كان الأمر مجردا عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط .

                        دلالة الأمر المعلق

                        أما إذا كان معلقا معلقا بشيء من هذه ، فإن كان معلقا معلقا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة ، وإثبات الحكم بثبوتها ، فإذا تكررت تكرر تكرر ، وليس التكرار مستفادا ها هنا من الأمر ، وإن كان معلقا معلقا على شرط أو صفة .

                        فقد ذهب كثير ممن قال : أن إن الأمر لا يفيد التكرار ، إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار ، لا من حيث الصيغة ، بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط ، أو الصفة ، إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك ، أما لو لم يكن فيها ما يقتضي ذلك فلا تكرار ، كقول [ ص: 307 ] السيد لعبده : اشتر اللحم إن دخلت دخلت السوق ، وقول الرجل لامرأته : إن دخلت دخلت الدار فأنت طالق ، وكذا لو قال : أعط اعط الرجل العالم درهما ، أو أو أعط اعط الرجل الفقير درهما .

                        والحاصل : أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه ، فإن حصلت حصل التكرار ، وإلا فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار ; لأن ذلك خارج عن محل النزاع ، وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة ، فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية