الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الرابعة : في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص

                        اختلفوا في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب :

                        المذهب الأول : أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام ، وإليه ذهب الأكثر ، وحكاه الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي .

                        قال : وإليه مال إمام الحرمين ، ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري ، ونقله ابن برهان عن المعتزلة .

                        قال الأصفهاني : ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد ، نعم اختاره الغزالي ، والرازي .

                        المذهب الثاني : أن العام إن كان مفردا كمن ، والألف واللام ، نحو : اقتل من في الدار ، واقطع السارق ، جاز التخصيص إلى أقل المراتب ، وهو واحد ; لأن الاسم يصلح لهما جميعا ، وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين ، جاز إلى أقل الجمع ، وذلك إما [ ص: 414 ] ثلاثة أو اثنان على الخلاف ، قاله القفال الشاشي ، وابن الصباغ .

                        قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني : لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد ، فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا كمن ، والألف واللام .

                        المذهب الثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء ، والبدل ، فيجوز إلى الواحد ، وإلا فلا يجوز ، قال الزركشي حكاه ابن المطهر ، وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي .

                        المذهب الرابع : أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقا ، على حسب اختلافهم في أقل الجمع ، حكاه ابن برهان ، وغيره .

                        المذهب الخامس : أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم ، حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال : وهو الذي اختاره الشافعي ، ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب الشافعي ما عدا القفال ، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصول عن إجماع الشافعية ، وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية ، وصححه القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور .

                        المذهب السادس : إن كان التخصيص بمتصل ، فإن كان بالاستثناء أو البدل ، جاز إلى الواحد ، نحو : أكرم الناس إلا الجهال ، وأكرم الناس إلا تميما ، وإن كان بالصفة أو الشرط ، فيجوز إلى اثنين ، نحو : أكرم القوم الفضلاء ، أو إذا كانوا فضلاء .

                        وإن كان التخصيص بمنفصل ، وكان في العام المحصور القليل كقولك : قتلت كل زنديق ، وكانوا ثلاثة أو أربعة ، ولم تقتل سوى اثنين ، جاز إلى اثنين ، وإن كان العام غير محصور أو كان محصورا كثيرا ، جاز ، بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام ، هكذا ذكره ابن الحاجب ، واختاره .

                        [ ص: 415 ] قال الأصفهاني في شرح المحصول : ولا نعرفه لغيره .

                        احتج الأولون بأنه لو قال قائل : قتلت كل من في المدينة ، ولم يقتل إلا ثلاثة ، عد لاغيا مخطئا في كلامه ، وهكذا لو قال : أكرمت كل العلماء ، ولم يكرم إلا ثلاثة ، أو قتلت جميع بني تميم ، ولم يقتل إلا ثلاثة .

                        واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة : بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم .

                        ويجاب : بأن ذلك خارج عن محل النزاع ، فإن الكلام إنما هو في العام ، والجمع ليس بعام ، ولا تلازم بينهما .

                        واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد : بأنه يجوز أن يقول : أكرم الناس إلا الجهال ، وإن كان العالم واحدا .

                        ويجاب عنه : بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجودا في الخارج ، ومثل هذه الصورة اتفاقية ، ولا يعتبر بها ، فالناس هاهنا ليس بعام ، بل هو للمعهود ، كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس فإن المراد بالناس المعهود ، وهو نعيم بن مسعود ، والمعهود ليس بعام .

                        واستدلوا أيضا : بأنه يجوز أن يقول القائل : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز .

                        وأجيب عن ذلك : بأنه غير محل النزاع ، فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام ، بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني ، وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب ، وهو مقدار معلوم .

                        والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولا للعام ، ولو في بعض الحالات ، وعلى بعض التقادير ، كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية ، والكلمات العربية ، ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد [ ص: 416 ] خصص ، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام ، فإن هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر والأقرب هما مدلولا العام على التمام ، فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده ، كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ، ولا يصح أن يقال هاهنا : إن الأكثر في حكم الكل ; لأن النزاع في مدلول اللفظ ، ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ، ولو كان المخرج فردا واحدا .

                        وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام ، عرفت أيضا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعا ; لأن النزاع في معنى العموم ، لا في معنى الجمع ، ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظا كمن ، وما ، والمعرف باللام ، وبين كونها غير مفردة ، فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة ، والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية