الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: الوقف على غير المكاتب، والمبعض:

        وفيها أمران:

        الأمر الأول: أن يكون الوقف من قبل السيد:

        إذا وقف السيد على رقيقه، كقنه، وأم ولده، ومدبره، ففي صحة هذا الوقف خلاف بين الفقهاء - رحمهم الله - على أقوال:

        القول الأول: صحة هذا الوقف على الرقيق مطلقا.

        وهو قول أبي يوسف، ومذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية.

        القول الثاني: عدم صحة الوقف على الرقيق مطلقا.

        وهو قول بعض الحنفية، وهو مذهب الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة [ ص: 452 ] جاء في مغني المحتاج: « (ولا) يصح (على العبد نفسه) أي: نفس العبد سواء أكان له أم لغيره؛ لأنه ليس أهلا للملك.

        (فلو أطلق الوقف عليه) فإن كان له لم يصح؛ لأنه يقع للواقف وإن كان لغيره (فهو وقف على سيده) كما في الهبة والوصية والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة حكمهم كذلك، وأما المكاتب فإن كان مكاتب نفسه لم يصح الوقف عليه كما جزم به الماوردي وغيره نظير ما في إعطاء الزكاة له، أو مكاتب غيره صح كما جزم به الماوردي أيضا، وجرى عليه ابن المقري؛ لأنه يملك ».

        جاء في الإنصاف: « قوله: (ولا على حيوان لا يملك كالعبد) لا يصح الوقف على العبد على الصحيح من المذهب مطلقا نص عليه وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، قال في القواعد الفقهية: الأكثرون على أنه لا يصح الوقف على العبد على الروايتين لضعف ملكه، وجزم به في المغني وغيره وقدمه في الفروع وغيره.

        وقيل: يصح إن قلنا يملك، وهو ظاهر كلام المصنف هنا، حيث اشترط لعدم الصحة عدم الملك.

        قال في الرعاية: ويكون لسيده، وقيل: يصح الوقف عليه، سواء قلنا يملك أو ويكون لسيده، واختاره الحارثي ».

        جاء في الشرح الكبير: « مسألة: ولا يصح على حيوان لا يملك كالعبد القن وأم الولد والمدبر والميت والحمل والملك والبهيمة والجن) قال أحمد فيمن وقف على مماليكه : لا يصح الوقف حتى يعتقهم؛ وذلك لأن الوقف تمليك فلا يصح على من لا يملك » . [ ص: 453 ]

        القول الثالث: يصح الوقف على المدبر، وأم الولد، ولا يصح الوقف على غيرهما.

        وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية.

        القول الرابع: يصح الوقف على الرقيق بناء على أنه يملك.

        وبه قال بعض الشافعية، وبعض الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        يستدل لصحة الوقف على الرقيق بأنه يملك، فإذا وقف عليه صح ويدل الثبوت الملك للعبد أدلة، منها:

        1 - قول الله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ، فأضاف الأجور إليهن مما يدل على ملكهن.

        2 - قول الله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله « فوصفهم الله بالغنى والفقر، ولما وصفهم الله بالغنى تارة وبالفقر أخرى ولم يخص عبدا من حر دل على أنهم يملكون ».

        (131) 3 - ما رواه البخاري من طريق سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنهما [ ص: 454 ] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ...ومن ابتاع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع». (132) 4 - ما رواه أبو داود من طريق ابن لهيعة والليث بن سعد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أعتق عبدا وله مال، فمال العبد له إلا أن يشترطه السيد ».

        فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم المالية إلى العبد المبيع والمعتق إضافة تخصيص بلام التمليك، قال الشوكاني: « فيه دليل على أن العبد إذا ملكه سيده مالا ملكه، وبه قال مالك، والشافعي في القديم، وقال في الجديد وأبو حنيفة: إن العبد [ ص: 455 ] لا يملك شيئا، والظاهر الأول؛ لأن نسبة المال إلى المملوك تقتضي أنه يملك... ».

        5 - أن الوقف جاز على المساجد والسقايات وأشباهها وهي لا تملك، فكذا العبد.

        ونوقش: أن الوقف هناك على المسلمين إلا أنه عين في نفع خاص لهم.

        فإن قيل: فينبغي أن يصح الوقف على الكنائس، ويكون الوقف على أهل الذمة والوقف عليهم جائز، قلنا: على الجهة التي عين صرف الوقف فيها ليست نفعا، بل هي معصية محرمة يزدادون بها عقابا وإثما بخلاف المساجد.

        5 - أن العبد إذا قلنا إنه يملك بالتمليك عند بعض العلماء.

        نوقش: أن الوقف يقتضي تحبيس الأصل، والعبد لا يملك ملكا لازمة ولا يصح على المكاتب، وإن كان يملك؛ لأن ملكه غير مستقر.

        أدلة القول الثاني:

        استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - أن العبد ليس أهلا للملك، وغلة الوقف ملك للموقوف عليه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يسلم بأن العبد لا يملك، بل سبق الدليل على ملكه.

        2 - أن الوقف على الرقيق يقع لمالكه - الواقف - ؛ لأنه لا يملك، والوقف على النفس غير جائز. [ ص: 456 ]

        ونوقش: بأنه تقدم بحث مسألة الوقف على النفس، وأن الأقرب صحتها.

        دليل القول الثالث:

        استدل لهذا القول: بانعقاد سبب الحرية للمدبر وأم الولد.

        دليل القول الرابع:

        استدل لهذا القول: أن الرقيق يملك بالتمليك فصح الوقف عليه.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - صحة وقف السيد على رقيقه؛ لقوة دليله، ولأن الوقف إحسان، وهو من أهل الإحسان والصدقة.

        الأمر الثاني: أن يكون الوقف من غير السيد:

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم الوقف على القيء، أو أم الولد، أو المدبر، إذا كان الواقف غير السيد على أقوال:

        القول الأول: صحة الوقف على الرقيق إذا كان الواقف غير السيد.

        وبه قال الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الشافعية، وفي مذهب الحنابلة.

        القول الثاني: عدم صحة الوقف على الرقيق.

        وهو الصحيح من مذهب الحنابلة. [ ص: 457 ]

        القول الثالث: إن قصد الواقف السيد أو أطلق صح وكان لسيده، وإن قصد الرقيق لم يصح.

        وهذا قول الشافعية، واستثنوا الأرقاء الموقوفين لخدمة الكعبة، فيصح.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - ما تقدم من الأدلة قريبا على أن الرقيق يملك، وإذا ملك صح الوقف عليه.

        2 - قوله تعالى : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وهو أهل للإحسان .

        دليل القول الثاني:

        استدل لهذا القول: بأن الرقيق لا يملك، ولو ملك فملكه ضعيف؛ لأنه يؤول إلى سيده.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم كما سبق، وأن الرقيق يملك.

        أدلة القول الثالث:

        استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - إن قصد السيد، أو أطلق كان للسيد؛ لصحة الوقف على الحر.

        2 - وإن قصد الرقيق لم يصح ؛ لما تقدم من الدليل على عدم صحة الوقف على الرقيق.

        وتقدمت مناقشته. [ ص: 458 ]

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - صحة الوقف على الرقيق مطلقا؛ لقوة دليله، ولأن الوقف فعل خير وقربة، فلا يمنع منه إلا لدليل.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية