الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب التاسع: الشرط التاسع: شرط القربة في الموقوف عليه

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: اعتبار هذا الشرط في حق المسلم:

        إذا كان وقف المسلم على قربة كالوقف على المساجد، والفقراء، والعلماء؛ صح باتفاق العلماء.

        وإن كان على معصية كالوقف على الشرك، والبدع، والأغاني، ونحو ذلك لم يصح.

        فقد حصل الاتفاق من الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى على اشتراط أن لا يكون الوقف على جهة معصية، كأن يقف على الكنائس، أو على شراب الخمر، أو على السراق، أو على نسخ كتب التوراة والإنجيل وكتب الزندقة، ونحو ذلك مما تكون فيه الجهة جهة معصية.

        جاء في الفتاوى الهندية: « ومنها: أن يكون قربة في ذاته، وعند التصرف لا يصح وقف المسلم أو الذمي على البيعة والكنيسة، أو على فقراء أهل الحرب ». [ ص: 469 ]

        وجاء في الجوهرة النيرة: « ولا يجوز الوقف على البيع والكنائس، ولا على قطاع الطريق؛ لأنه لا قربة فيه، ويجوز الوقف على المساجد والقناطر ».

        وجاء في شرح الخرشي: « وبطل على معصية: يعني أن الوقف على معصية باطل كمن وقف على شربة الخمر وأكلة الحشيش، وما أشبه ذلك، قال الباجي: لو حبس مسلم على كنيسة فالأظهر عندي رده ؛ لأنها معصية كما لو صرفها إلى أهل السفه » وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: « وبطل الوقف على معصية، كجعل غلته في ثمن خمر، أو سلاح لقتال غير جائز ».

        وفي الحاوي الكبير: « ألا يكون على معصية، فإن كان على معصية لم يجز ».

        وجاء في كفاية الأخبار: « وكذا لا يجوز الوقف على البيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل؛ لأنها محرمة ».

        وجاء في الشرح الكبير: « ولا يصح على الكنائس وبيوت النار والبيع وكتب التوراة والإنجيل؛ لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر، وكتبهم مبدلة منسوخة، وحكم الوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ومن يعمرها كالوقف عليها؛ لأنه يراد لتعظيمها، والمسلم والذمي في ذلك سواء، قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا وماتوا ولهم أبناء [ ص: 470 ] نصارى فأسلموا، والضياع بيد النصارى، فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم، وهذا مذهب الشافعي، قال شيخنا: ولا نعلم فيه مخالفا ».

        ودليل هذا:

        1 - قول الله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وجه الاستدلال بالآية: أن الوقف على جهة المعصية فيه تعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى المولى تبارك وتعالى عنه، والنهي يقتضي التحريم.

        2 - أن الوقف شرع للتقرب، والوقف على المعصية مضاد لذلك، فكان باطلا.

        ولذا فقد نص الفقهاء رحمهم الله على أنه إذا وقف على جهة المعصية، فإن الوقف يصبح باطلا.

        وإن كان على مباح لم تظهر فيه القربة، فموضع خلاف بين العلماء:

        القول الأول: عدم صحة الوقف على المباح إذا لم تظهر فيه القربة.

        وهو مذهب الحنفية، ووجد عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام. [ ص: 471 ]

        ونص الحنفية، وبعض الحنابلة: أنه إذا وقف على مباح ثم قربة، كالأغنياء ثم الفقراء صرف للفقراء.

        القول الثاني: صحة الوقف على المباح.

        وهو مذهب المالكية، والشافعية، وقول عند الحنابلة.

        أدلة القائلين بأن اشتراط ما لا قربة فيه لا يصح.

        1 - قوله تعالى: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .

        وجه الاستدلال: أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء، وإن كان الغنى وصفا مباحا فلا يجوز الوقف على الأغنياء، وعلى قياسه سائر الصفات المباحة.

        2 - حديث عمر رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: « إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها ».

        3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ...أو صدقة جارية ».

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الوقف صدقة، والصدقة إخراج المال على وجه القربة.

        (133) 4 - ما رواه الترمذي من طريق ابن أبي ذئب، عن نافع بن أبي نافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر » [ ص: 472 ] [ ص: 473 ]

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الجعل إلا فيما يستعان به على الجهاد، ولم يجعله في المباح، وإن كان فيه منفعة كالمصارعة والمسابقة على الأقدام، فكيف يحبس المال على عمل لا ينتفع به هو؟!

        (134) 5 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مئة شرط ».

        قال شيخ الإسلام: « وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول؛ اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود ليس ذلك مخصوصا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر، أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود الوقف وغيره ».

        إلى أن قال: « ما لم ينه عنه من المباحات فهو مما أذن فيه فيكون مشروعا بكتاب الله، وأما ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر فلابد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به، لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية، [ ص: 474 ] لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الأمرين، وكذلك الوقف أيضا ».

        6 - أن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابا على بذل المال فيه، فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه لا في حياته ولا في مماته، ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا كان تعذيبا له بلا فائدة تصل إليه ولا إلى الواقف، ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام والمائدة، وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين أو في الدنيا كان باطلا بالاتفاق في أصول كثيرة؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فيكون باطلا ولو مئة شرط.

        7 - أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين، أو الدنيا ، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح، كما أنه لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل الله وسبيل طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه، وأما ما لا يحبه فلا ثواب على النفقة فيه ، وإذا كان كذلك فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الإنفاق فيها والوقف عليها، ولا يكون في الوقف عليها منفعة وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا، فيكون باطلا.

        دليل القائلين بصحة الوقف وإن خلا من قصد القربة:

        1 - قوله تعالى : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين . [ ص: 475 ]

        وقوله تعالى : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل .

        ويدخل في ذلك الوقف، وإن لم تظهر فيه وجه القربة.

        2 - قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .

        ويدخل في هذا الوقف على أهل الذمة.

        ونوقش الاستدلال بهذه الآيات: بأنها محمولة على غير الوقف لأدلة القول الأول.

        3 - أن المقصود في الوقف التمليك، وليس القربة كالوصية.

        4 - أن الوقف من باب العطايا والهبات لا من باب الصدقات، ومعلوم أن الهبة تصح بغير قصد القربة.

        ونوقش هذان الدليلان من وجهين:

        الأول: عدم التسليم؛ فالوقف يقصد منه القربة؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صدقة جارية كما سبق في حديث أبي هريرة، وحديث عمر رضي الله عنه، وإذا كان من باب الصدقات لزم فيه قصد القربة.

        الثاني: أن الوقف لو كان من باب الوصية والهبة والتبرع المحض لخلا من الأحكام واللوازم الخاصة به؛ إذ الأصل في الشيء المتبرع به أن يملكه المتبرع دون حجر عليه في التصرف.

        فالوقف يختص بأحكام، من أهمها: أن لا يجري فيه البيع والهبة [ ص: 476 ] والميراث، فهذا يدل على أنه نوع خاص من التبرع، وإنما استفيدت هذه الأحكام الخاصة من الشارع، ولو لم يرد الدليل فيها لكان الأصل عدمها، والدليل الوارد فيها لم يرد إلا في وقف يقصد به القربة، وهو وقف عمر رضي الله عنه.

        فوجب الوقف على ما ورد وعدم تعدية تلك الأحكام الخاصة إلى ما كان من التبرعات خالية من القربة، لا سيما وأن الصحابة في أوقافهم، لم ينقل أن أحدا منهم جعل وقفه في مباح، أو اشترط فيه شرطا ليس فيه مقصود شرعي.

        5 - أن صرف المال في المباح مباح.

        ونوقش: بأنه مباح ما لم يقيده الشارع.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - اشتراط القربة؛ لقوة الدليل على إلحاق الوقف بالصدقة المطلقة، والصدقة المغلب فيها وجه الله تعالى، ولأن هذا هو فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية