الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: الوقف على الأغنياء:

        اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم الوقف على الأغنياء على أقوال: [ ص: 477 ] القول الأول: عدم صحة الوقف على الأغنياء.

        وهو وجه عند الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة.

        واختاره شيخ الإسلام.

        جاء في كشاف القناع: « (وإن وقف على من لا يصح الوقف عليه ولم يذكر له مالا صحيحا) كأن يقول: وقفته على الأغنياء أو الذميين أو الكنيسة ونحوها (بطل الوقف) ؛ لأنه عين المصرف الباطل، واقتصر عليه ».

        القول الثاني: صحة الوقف على الأغنياء.

        وهو مذهب المالكية، والشافعية، وقول عند الحنابلة.

        جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: « وإن لم تظهر قربة: يعني أن الوقف يصح وإن لم تظهر فيه قربة؛ لأن الوقف من باب العطايا والهبات لا من باب الصدقات؛ ولهذا يصح الوقف على الغني والفقير فهو مبالغة في صح وعبر بقربة دون طاعة؛ لأن القربة لا يشترط فيها نية بخلاف الطاعة، وكلاهما لابد فيه من معرفة المتقرب إليه ».

        جاء في تحفة المحتاج في شرح المنهاج: « تنبيه: لم يتعرضوا لضابط الغني الذي يستحق به الوقف على الأغنياء. قال الأذرعي: الأشبه الرجوع فيه إلى العرف، وقال غيره: إنه من تحرم عليه الصدقة إما لملكه أو لقوته وكسبه [ ص: 478 ] أو كفايته بنفقة غيره وهو أولى، ولو وقف على الأغنياء، وادعى شخص أنه غني لم يقبل إلا ببينة بخلاف ما لو وقف على الفقراء، وادعى شخص أنه فقير ولم يعرف له مال فيقبل بلا بينة ».

        القول الثالث: يصح الوقف على الأغنياء بشرطين:

        1 - أن يكونوا ممن يحصون.

        2 - أن يجعل آخره للفقراء.

        وهو قول الحنفية.

        جاء في الفتاوى الهندية: « لا يجوز الوقف على الأغنياء وهم يحصون ثم بعدهم على الفقراء يجوز، ويكون الحق للأغنياء ثم للفقراء كذا في محيط السرخسي ».

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (عدم صحة الوقف على الأغنياء) :

        1 - ما يأتي من الأدلة قريبا - على اشتراط القربة لصحة الوقف.

        وإذا جعل الواقف الغني سبب الاستحقاق لم يكن الوقف على قربة.

        2 - قال شيخ الإسلام رحمه الله: « ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة، كالوقف على الأغنياء، على قولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، والأصول أنه باطل أيضا؛ لأن الله سبحانه قال في مال الفيء: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم فأخبر سبحانه أنه شرع ما ذكره؛ لئلا يكون الفيء متداولا بين الأغنياء دون الفقراء، فعلم أنه سبحانه يكره هذا [ ص: 479 ] وينهى عنه ويذمه ، فمن جعل الوقف للأغنياء فقط فقد جعل المال دولة بين الأغنياء، فيتداولونه بطنا بعد بطن دون الفقراء، وهذا مضاد الله في أمره ودينه، فلا يجوز ذلك ، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ». فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد، فكيف يكون الأمر في الوقف.

        وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين: أحدهما: أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء ».

        دليل القول الثاني: (صحة الوقف على الأغنياء) :

        1 - ما تقدم من الأدلة - قريبا - على عدم اشتراط القربة؛ لصحة الوقف، ويأتي الجواب عليها.

        2 - القياس على الوصية بجامع أن كلا من الوقف والوصية المراعى فيه التمليك، وليس القربة.

        ونوقش هذا الاستدلال:

        قال شيخ الإسلام: « فأما إن جعل سبب الاستحقاق هو الغني، وتخصيص الغني بالإعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوى الغني مع زيادة استحقاق الفقير عليه، فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن الله لا يحبه ولا يرضاه ».

        3 - أن الوقف من باب العطايا والهبات، لا من باب الصدقات. [ ص: 480 ]

        ونوقش: بعدم التسليم، فالوقف صدقة جارية كما في الحديث.

        دليل القول الثالث: أنه إذا توفر الشرطان صار ماله إلى القربة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول؛ لقوة دليله، وضعف دليل المخالف بمناقشته.

        ولما تقدم تقريره من أن الجهة العامة يشترط أن تكون على بر، والخاصة لا يشترط، بل يشترط أن لا تتضمن محذورا شرعيا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية