الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثامن: الشرط الثامن: أن يكون الموقوف عينا تبقى بعد استيفاء النفع منها

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: وقف المنافع:

        تعريف المنفعة:

        المنفعة خلاف الضر، قال ابن فارس: « النون، والفاء، والعين : كلمة تدل على خلاف الضر »، وفي المصباح المنير: « النفع: الخير، وانتفعت بالشيء ونفعني الله به، والمنفعة اسم منه ».

        وفي الاصطلاح: أعراض مستفادة من الأعيان يمكن استيفاؤها من تلك الأعيان.

        وقيل: « ما لا تمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة، يمكن استيفاؤه، غير جزء مما أضيف إليه ». [ ص: 569 ]

        وعرفها بعض المعاصرين بأنها: كل ما يقوم بالأعيان من أعراض، وما ينتج عنها من غلة كسكنى الدار وأجرته وثمرة البستان ولبن الدابة، ومما يدخل هنا إقطاع الاستغلال، وإقطاع الإرفاق.

        والمنفعة مال عند جمهور أهل العلم خلافا للحنفية.

        والدليل على مالية المنافع:

        قال الله تعالى: قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ، والمهر لا يكون إلا مالا.

        ولأن وقوع عقد الإجارة على المنافع دليل على اعتبارها مالا متقوما.

        ولأن الغرض الأظهر من جميع الأموال هي المنافع، فما لم تشتمل عليه المنفعة لا يسمى مالا.

        وعلل الحنفية مذهبهم بأن المنفعة لا يتحقق فيها معنى المال، فهي لا تقبل الحيازة ولا الإحراز؛ لذا فهي لا تقبل التقوم لكونها معدمة قبل وجودها غير محرزة بعد ذلك.

        وأجيب: بأن الحيازة أصل المنفعة، ومصدرها متحقق في المنفعة، فالحيازة والإحراز واقع فيها بحسب طبيعاتها.

        وقد أفتى متأخرو الحنفية بضمان منافع المغصوب في مال الوقف واليتيم، وما أعد للاستغلال على اعتبار أن المنافع مال متقوم. [ ص: 570 ]

        ومن المعلوم أن الوقف حبس للذات، وتصدق بالمنافع، ولكن قد يقع الوقف على المنافع قصدا واستقلالا عن الذات.

        وصورة ذلك: إذا وقف شخص منافع مملوكة له، كخدمة عبد موصى له بها، وكذلك منافع العين المستأجرة، ونحو ذلك.

        وقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :

        القول الأول: يجوز وقف المنافع بحد ذاتها مستقلة عن الذات، سواء كانت هذه المنافع المملوكة مؤبدة كالموصى له بسكنى دار أبدا، أو كانت المنافع مؤقتة كدار استأجرها مدة معلومة، فله وقف منفعتها في تلك المدة، وينقضي الوقف بانقضائها.

        وقال بذلك المالكية، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

        فقد جاء في الشرح الكبير ما نصه : « ... كدار استأجرها مدة معلومة، فله وقف منفعتها في تلك المدة، وينقضي الوقف بانقضائها؛ لأنه لا يشترط فيها التأبيد...، ومن استأجر دارا محبسة مدة فله تحبيس منفعتها على مستحق آخر غير المستحق الأول في تلك المدة، وأما المحبس عليه فليس له تحبيس المنفعة التي يستحقها؛ لأن الحبس لا يحبس ».

        وجاء في الاختبارات لابن تيمية قوله: « ولو وقف منفعة يملكها، كالعبد الموصى بخدمته، أو منفعة أم ولده في حياته أو منفعة العين المستأجرة [ ص: 571 ] فعلى ما ذكره أصحابنا: لا يصح ».

        قال أبو العباس: « وعندي هذا ليس فيه فقه... ».

        القول الثاني: لا يجوز وقف المنافع وحدها منفصلة عن الذات.

        وقال بهذا الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول عند المالكية.

        قال في مغني المحتاج: « ولا يصح وقف المنفعة دون الرقبة مؤقتة كالإجارة، أو مؤبدة كالوصية... » وجاء في كشاف القناع قوله: « ولا يصح...وقف منفعة يملكها كخدمة عبد موصى له بها، ومنفعة أم ولده في حياته، ومنفعة العين المستأجرة، ومال الشيخ تقي الدين إلى صحته ».

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (جواز وقف المنافع) :

        1 - عموم أدلة الوقف، فهذه الأدلة بعمومها تقتضي صحة وقف المنفعة. [ ص: 572 ]

        2 - الأدلة الدالة على صحة وقف المنقول كالسلاح ونحوه، والحيوان.

        وجه الدلالة : أن تأبيد هذه الأشياء مؤقت، فكذا المنافع.

        3 - ما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ».

        (169) 4 - ما رواه أبو داود من طريق أبي خالد الذي كان ينزل في بني دالان، عن نبيح، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ». [ ص: 573 ]

        وجه الدلالة : في هذا الحديث الصدقة بمنفعة الثوب، والطعام، والماء، وكذا وقف هذه المنافع.

        5 - أنه لا فرق بين وقف المنفعة، ووقف الملك كاملا؛ لأن الأعيان إنما تحبس لأجل ما فيها من المنفعة، وحينئذ لا فرق بين وقف المنفعة وحدها، وبين وقف عين مشتملة على منفعة.

        قال ابن تيمية: « لا فرق بين وقف المنافع، وبين وقف البناء والغراس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه، أو فرس يركبونه، أو ريحان يشمه أهل المسجد، وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، فعلم أن التطيب منفعة مقصودة، لكن قد يطول بقاء مدة التطيب، وقد يقصر، ولا أثر لذلك ».

        6 - القياس على الوصية، فكما تصح الوصية بالمنافع يصح وقفها بجامع أن كلا منهما تبرع.

        7 - أن المنافع أموال متقومة - كما تقدم في أول المبحث - ، فيصح وقفها كسائر الأموال.

        8 - قياس جواز وقف المنافع على صحة الوصية بها.

        أدلة القول الثاني: (عدم جواز وقف المنافع) :

        1 - أن وقف المنفعة لا يجوز؛ لأن الرقبة أصل والمنفعة فرع، والفرع يتبع الأصل. [ ص: 574 ]

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الأول: أنه لا يسلم أن المنفعة فرع، بل أصل؛ إذ المقصود من الوقف المنفعة؛ لأنها محل الاستهلاك والتصرف، بخلاف العين فحبسه عن التصرف.

        الثاني : على التسليم، فإن كون المنفعة فرعا عن الرقبة لا يمنع من التصرف فيها استقلالا، فكما يجوز العقد عليها والوصية بها وهبتها يجوز وقفها.

        2 - أن الوقف يستدعي أصلا يحبس لتستوفي منفعته دائما.

        ونوقش: بأن هذا استدلال في محل النزاع.

        وأيضا: لا يسلم اشتراط التأبيد، فيصح الوقف مؤبدا ومؤقتا كما تقدم قريبا.

        3 - أن وقف المنفعة تصرف في الرقبة على الجملة إما بالحبس، أو إزالة ملك، ولا ملك له.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن مورد النزاع على المنفعة المملوكة، دون الرقبة غير المملوكة.

        4 - من أعظم مقاصد الوقف الدوام والاستمرار، وهذا لا يتحقق في وقف المنافع؛ إذ تتلف تلك المنافع عند استيفائها.

        ونوقش: بأن كل شيء تأبيده بحسبه، ويغتفر في المنافع ما لا يغتفر في الأعيان. [ ص: 575 ]

        الترجيح:

        إذا نظرنا إلى ما سبق من القولين يترجح - والله أعلم - صحة وقف المنافع؛ لقوة دليله، ومناقشة دليل المانعين.

        ومما يؤيده: أن المانعين من وقف المنافع أجازوا وقف المنقول كالسلاح ونحوه، والحيوان، مع أن تأبيد هذه الأشياء مؤقت، ولأن الوقف فعل خير وقربة، وإذا كان كذلك، فالأصل الحث عليه، والتكثير منه .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية