الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: وقف الحلي للبس، والعارية:

        مثال ذلك:

        الأساور، والخواتم، والخروص، ونحو ذلك من أنواع الذهب، والفضة، أو غيرهما.

        وقد اختلف الفقهاء في حكم وقفه للبس والإعارة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز وقف ذلك مطلقا. [ ص: 589 ]

        وهذا هو الظاهر من قول المالكية، حيث قالوا بجواز وقف المنقول إذا كان مما ينتفع به مع بقاء عينه، بل قالوا بجواز وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه في غير المنفعة المقصودة منه، كما تقدم.

        وبه قال الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو قول شيخ الإسلام.

        قال المرداوي: « (ويصح وقف الحلي للبس والعارية) هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال المصنف وغيره: هذا المذهب، قال الحارثي: هذا الصحيح، وذكره صاحب التلخيص عن عامة الأصحاب، واختاره القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل والمصنف والشارح في آخرين، ونقلها الخرقي، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في الفروع في الحلي وغيره، وعنه: لا يصح اختاره ابن أبي موسى، ذكره الحارثي، وتأوله القاضي وابن عقيل ».

        قال النووي: « ويصح وقف الحلي لغرض اللبس، وحكى الإمام أنهم ألحقوا الدراهم ليصاغ منها الحلي بوقف العبد الصغير، وتردد هو فيه ».

        القول الثاني: يجوز وقفه إذا تعارف الناس عليه، وتعاملوا به.

        وهذا مقتضى قول محمد بن الحسن من الحنفية، وعليه العمل والفتوى عندهم، بناء على قوله في وقف المنقول.

        قال ابن الهمام: « والحاصل أن وقف المنقول تبعا للعقار يجوز، وأما [ ص: 590 ] وقفه مقصودا إن كان كراعا أو سلاحا جاز، وفيما سوى ذلك إن كان مما لم يجز التعامل بوقفه كالثياب والحيوان، ونحوه، والذهب والفضة لا يجوز عندنا، وإن كان متعارفا كالجنازة، والفأس، والقدوم، وثياب الجنازة، ومما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى، والمصاحف.

        قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز، وإليه ذهب عامة المشايخ ».

        القول الثالث : لا يجوز وقف ذلك مطلقا.

        وهذا مقتضى قول أبي حنيفة وتلميذه أبي يوسف بناء على قولهما في وقف المنقول إذا كان مما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كما تقدم.

        وهو رواية عن الإمام أحمد، نقلها عنه حنبل والأثرم.

        قال الزركشي بعد ذكر هذه الرواية: « قال في التلخيص: وهو محمول على رواية وقف المنقول، قلت: ذكر القاضي في التعليق رواية الأثرم وحنبل، ولفظها: لا أعرف الوقف في المال، فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر، والله أعلم ».

        فيتوقف في صحة هذه الرواية عن الإمام أحمد حسب الكلام المنقول عنه فيها.

        الأدلة:

        أدلة أصحاب القول الأول:

        1 - عموم أدلة الوقف. [ ص: 591 ]

        2 - ما تقدم قريبا من الأدلة على صحة وقف المنقول.

        (172) 3 - ما رواه نافع قال: ابتاعت حفصة حليا بعشرين ألفا، فحبسته على نساء آل خطاب، فكانت لا تخرج زكاته.

        ويناقش بأنه لم تثبت صحته؛ لعدم الاطلاع على إسناده كما في توثيقه، بل إن الإمام أحمد أنكره.

        4 - أن الحلي عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما، فيصح وقفها قياسا على العقار.

        5 - أن الحلي عين يصح تحبيس أصلها وتسبيل الثمرة، فيصح وقفها قياسا على العقار.

        6 - أن في الحلي نفعا مباحا مقصودا، فجاز أخذ الأجرة عليه، وصح وقفه قياسا على وقف السلاح في سبيل الله تعالى.

        دليل القول الثاني: (الجواز إذا تعامل به الناس) :

        يستدل له بما استدل به في مسألة وقف المنقول الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، وقد سبق مناقشته.

        دليل القول الثالث: (عدم الجواز) :

        1 - ما تقدم من الدليل على عدم جواز وقف المنقول، وتقدمت مناقشته .

        2 - أن التحلي ليس هو المقصود الأصلي من الأثمان، فلم يصح وقفها عليه، كما لو وقف الدراهم والدنانير. [ ص: 592 ]

        نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه :

        الأول: أن عدم جواز وقف الدراهم والدنانير ليس محل اتفاق، كما في مسألة وقف النقود.

        الثاني: أنه وإن سلم أن التحلي ليس المقصود الأصلي لكنه من المقاصد المهمة، وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه، وجوز إجارته لذلك.

        الثالث: على تقدير التسليم بعدم جواز وقف الدراهم والدنانير، فإن القياس عليها هنا قياس مع الفارق، فإن الدراهم والدنانير لم تجر العادة بالتحلي به، ولا اعتبره الشارع في إسقاط زكاته، ولا ضمان منفعته في حال الغصب، بخلاف الحلي كما تقدم.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بجواز وقف الحلي للبس والعارية؛ لما تقدم من مرجحات في وقف المنقول.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية