الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون

                                                                                                                                                                                                                                        (57) يخبر تعالى أن المكذبين من قريش وأهل مكة، يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بالقتل والأسر ونهب الأموال، فإن الناس قد عادوك وخالفوك، فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم، ولم يكن لنا بهم طاقة.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذا الكلام منهم، يدل على سوء الظن بالله تعالى، وأنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته، بل يمكن الناس من أهل دينه، فيسومونهم سوء العذاب، وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق.

                                                                                                                                                                                                                                        قال الله مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن الله اختصهم بها، فقال: أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا أي: [ ص: 1292 ] أولم نجعلهم متمكنين ممكنين في حرم يكثره المنتابون ويقصده الزائرون، قد احترمه القريب والبعيد، فلا يهاج أهله، ولا ينتقصون بقليل ولا كثير، والحال أن كل ما حولهم من الأماكن، قد حف بها الخوف من كل جانب، وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين، فليحمدوا ربهم على هذا الأمن التام، الذي ليس فيه غيرهم، وعلى الرزق الكثير، الذي يجبى إليهم من كل مكان، من الثمرات والأطعمة والبضائع، ما به يرتزقون ويتوسعون. وليتبعوا هذا الرسول الكريم، ليتم لهم الأمن والرغد، وإياهم وتكذيبه، والبطر بنعمة الله، فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا، وبعد عزهم ذلا وبعد غناهم فقرا.

                                                                                                                                                                                                                                        (58) ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم، فقال: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي: فخرت بها، وألهتها، واشتغلت بها عن الإيمان بالرسل، فأهلكهم الله، وأزال عنهم النعمة، وأحل بهم النقمة، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ؛ لتوالي الهلاك والتلف عليهم، وإيحاشها من بعدهم، وكنا نحن الوارثين للعباد، نميتهم، ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم، ثم نعيدهم إلينا، فنجازيهم بأعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                        (59) ومن حكمته ورحمته أن لا يعذب الأمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم، ولهذا قال: وما كان ربك مهلك القرى أي: بكفرهم وظلمهم حتى يبعث في أمها أي: في القرية والمدينة التي إليها يرجعون، ونحوها يترددون، وكل ما حولها ينتجعها، ولا تخفى عليه أخبارها، رسولا يتلو عليهم آياتنا الدالة على صحة ما جاء به، وصدق ما دعاهم إليه، فيبلغ قوله قاصيهم ودانيهم، بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة، والأطراف النائية، فإن ذلك مظنة الخفاء والجفاء، والمدن الأمهات مظنة الظهور والانتشار، وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون بالكفر والمعاصي، مستحقون للعقوبة. والحاصل: أن الله لا يعذب أحدا إلا بظلمه، وإقامة الحجة عليه.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية