الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ) قال ابن الأنباري : نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة ، فلما بعث الرسول كذبوه بغيا وحسدا ، فعموا وصموا لمجانبة الحق ، ثم تاب الله عليهم ; أي : عرضهم للتوبة بإرسال الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه . انتهى . والضمير في : وحسبوا ، عائد على بني إسرائيل ، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا ، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءه في أنفسهم ، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل ، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق ، أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى في أنفسهم ، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى ، فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه ؛ خمسة أقوال . والفتنة هنا : الابتلاء والاختبار . فقيل : في الدنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون ، أو القتل ، أو العداوة ، أو ضيق الحال ، أو القمل ، والضفادع ، والدم ، أو التيه ، وقتال الجبارين ، أو مجموع ما ذكر ؛ أقوال ثمانية . وقيل : في الآخرة بالافتضاح على رءوس الأشهاد ، أو هو يوم القيامة وشدته ، أو العذاب بالنار والخلود ؛ ثلاثة أقوال . وقيل : الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة ، وسدت أن وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه . وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر بنصب نون تكون بأن الناصبة للمضارع ، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن . وقرأ النحويان وحمزة برفع النون ، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة المنفية في موضع الخبر . نزل الحسبان في [ ص: 534 ] صدورهم منزلة العلم ، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلا ; قال الشاعر :


حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا



وتكون هنا تامة .

( ثم عموا وصموا كثير منهم ) قالت جماعة : توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم . قيل : ولوجهم في شهواتهم فلم يبصروا الحق ، ولم يسمعوا داعي الله . وقالت جماعة : توبتهم ببعث عيسى ، عليه السلام . وقالت جماعة : بعث محمد ، صلى الله عليه وسلم . وقيل : الأول : في زمان زكريا ويحيـى و عيسى ، عليهم الصلاة والسلام ، ولتوفيق كثير منهم للإيمان . والثاني : في زمان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، آمن جماعة به ، وأقام الكثير منهم على كفرهم . وقيل : الأول عبادة العجل ثم التوبة عنه ، ثم الثاني بطلب الرؤية وهي محال غير معقول في صفات الله قاله الزمخشري ، جريا على مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤية الله تعالى . وقال القفال في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية وقيل : الأول بعد موسى ثم تاب عليهم ببعث عيسى . والثاني بالكفر بالرسول ; والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أن لا يبتلوا إذا عصوا الله ، فعصوا الله تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم ، ثم تاب الله عليهم إذ حلت بهم الفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة الله تعالى ، وبدئ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصر من أتاه بها من عند الله ، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه ، فعرض لهم الصمم عن كلامه . ولما كانوا قبل ذلك على طريق الهداية ، ثم عرض لهم الضلال ، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت : فأعماهم الله وأصمهم كما جاء في قوله : ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم ) إذ هذا فيمن لم تسبق له هداية ، وأسند الفعل الشريف إلى الله تعالى في قوله : ( ثم تاب الله عليهم ) لم يأت ، ثم تابوا إظهارا للاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم . وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم ، وفي العطف بثم دليل على أنهم تمادوا في الضلال زمانا إلى أن تاب الله عليهم . وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم ، من عموا ، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه ، وحم وأحمه ، ولا يقال : زكمه الله ولا حمه الله ، كما لا يقال : عميته ولا صممته ، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعدية ثلاثية ، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة ، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال . وقال الزمخشري : وعموا وصموا ، بالضم ، على تقدير عماهم الله وصمهم ; أي : رماهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته ; إذا ضربته بالنيزك ، وركبته ; إذا ضربته بركبتك . انتهى . وارتفاع كثير على البدل من المضمر . وجوزوا أن يرتفع على الفاعل ، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة . وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هم ; أي : العمى والصم كثير منهم . وقيل : مبتدأ ، والجملة قبله في موضع الخبر . وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه ، فلا ينوى به التأخير . والوجه هو الإعراب الأول . وقرأ ابن أبي عبلة : كثيرا منهم بالنصب .

( والله بصير بما يعملون ) هذا فيه تهديد شديد ، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير ، إذ تقدم قبله فعموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية