الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الخامسة

[ قراءة القرآن ]

اتفق العلماء على أنه لا تجوز صلاة بغير قراءة لا عمدا ، ولا سهوا ، إلا شيئا روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه صلى ، فنسي القراءة ، فقيل له في ذلك ، فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ فقيل : حسن ، فقال : لا بأس إذا ، وهو حديث غريب عندهم ، أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات ، وإلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر ، وأنه قال : " قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلوات ، وسكت في أخرى " ، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت ، وسئل هل في الظهر ، والعصر قراءة ؟ فقال : لا .

[ ص: 108 ] وأخذ الجمهور بحديث خباب " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر ، قيل فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك ؟ قال : باضطراب لحيته " وتعلق الكوفيون بحديث ابن عباس في ترك وجوب القراءة في الركعتين الأخيرتين من الصلاة لاستواء صلاة الجهر ، والسر في سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الركعتين . واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة ، فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن لمن حفظها ، وأن ما عداها ليس فيه توقيت ، ومن هؤلاء من أوجبها في كل ركعة ، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة ، وبالأول قال الشافعي ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وقد روي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته . وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة ، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة .

وأما أبو حنيفة : فالواجب عنده إنما هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ ، وحد أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين ، وهذا في الركعتين الأوليين ، وأما في الأخيرتين ، فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة ، وبه قال الكوفيون .

والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها .

والسبب في هذا الاختلاف : تعارض الآثار في هذا الباب ، ومعارضة ظاهر الكتاب للأثر ، أما الآثار المتعارضة في ذلك ، فأحدها حديث أبي هريرة الثابت : " أن رجلا دخل المسجد فصلى ، ثم جاء ، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، فصلى ، ثم أمره بالرجوع ، فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " وأما المعارض لهذا فحديثان ثابتان متفق عليهما : أحدهما : حديث عبادة بن الصامت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج ثلاثا " وحديث أبي هريرة المتقدم ظاهره أنه يجزئ من القراءة في الصلاة ما تيسر من القرآن ، وحديث عبادة وحديث أبي هريرة الثاني يقتضيان أن أم القرآن شرط في الصلاة ، وظاهر قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) يعضد حديث أبي هريرة المتقدم ، والعلماء المختلفون في هذه المسألة إما أن يكونوا ذهبوا في تأويل هذه الأحاديث مذهب الجمع ، وإما أن يكونوا ذهبوا مذهب الترجيح ، وعلى كلا القولين يتصور هذا المعنى ، وذلك أنه من ذهب مذهب من أوجب قراءة ما تيسر من القرآن له أن يقول هذا أرجح ; لأن ظاهر [ ص: 109 ] الكتاب يوافقه ، وله أن يقول على طريق الجمع أنه يمكن أن يكون حديث عبادة المقصود به نفي الكمال لا نفي الإجزاء ، وحديث أبي هريرة المقصود منه الإعلام بالمجزئ من القراءة ، إذا كان المقصود منه تعليم فرائض الصلاة .

ولأولئك أيضا أن يذهبوا هذين المذهبين بأن يقولوا هذه الأحاديث أوضح ; لأنها أكثر ، وأيضا فإن حديث أبي هريرة المشهور يعضده ، وهو الحديث الذي فيه يقول تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين ، يقول الله حمدني عبدي " الحديث ، ولهم أن يقولوا أيضا إن قوله - عليه الصلاة والسلام - ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " مبهم والأحاديث الأخر معينة ، والمعين يقضي على المبهم ، وهذا فيه عسر ، فإن معنى حرف ( ما ) ههنا إنما هو معنى أي شيء تيسر ، وإنما يسوغ هذا إن دلت ( ما ) في كلام العرب على ما تدل عليه لام العهد ، فكان يكون تقدير الكلام : اقرأ الذي تيسر معك من القرآن ويكون المفهوم منه أم الكتاب ، إذا كانت الألف واللام في ( الذي ) تدل على العهد ، فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب ، فإن وجدت العرب تفعل هذا ( أعني تتجوز في موطن ما ) فتدل بـ ( ما ) على شيء معين فليسغ هذا التأويل ، وإلا فلا وجه له ، فالمسألة كما ترى محتملة ، وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ . وأما اختلاف من أوجب أم الكتاب في الصلاة في كل ركعة أو في بعض الصلاة فسببه احتمال عودة الضمير الذي في قوله - عليه الصلاة والسلام - " لم يقرأ فيها بأم القرآن " على كل أجزاء الصلاة أو على بعضها ، وذلك أن من قرأ في الكل منها أو في الجزء . أعني : في ركعة أو ركعتين لم يدخل تحت قوله - عليه الصلاة والسلام - " لم يقرأ فيها " وهذا الاحتمال بعينه هو الذي أصار أبا حنيفة إلى أن يترك القراءة أيضا في بعض الصلاة : ( أعني : في الركعتين الأخيرتين ) واختار مالك أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الرباعية بالحمد وسورة ، وفي الأخيرتين بالحمد فقط ، فاختار الشافعي أن تقرأ في الأربع من الظهر بالحمد ، وسورة إلا أن السورة التي تكون في الأوليين تكون أطول ، فذهب مالك إلى حديث أبي قتادة الثابت " أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين منها بفاتحة الكتاب فقط .

وذهب الشافعي إلى ظاهر حديث أبي سعيد الثابت أيضا أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية ، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية ، ولم يختلفوا في العصر لاتفاق الحديثين فيها ، وذلك أن في حديث أبي سعيد هذا " أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية ، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية