الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) وفيه مسألتان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد من الأدنى ههنا الأقرب ، والتقدير : ذلك أقرب من أن لا تعولوا ، وحسن حذف " من " لدلالة الكلام عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في تفسير ( ألا تعولوا ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : معناه : لا تجوروا ولا تميلوا ، وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين ، وروي ذلك مرفوعا ، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) قال : ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى " أن لا تميلوا " قال الواحدي رحمه الله : كلا اللفظين مروي ، وأصل العول الميل يقال : عال الميزان عولا ، إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار ، لأنه إذا جار فقد مال . وأنشدوا لأبي طالب :


                                                                                                                                                                                                                                            بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل

                                                                                                                                                                                                                                            وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم ، فقال له : أتعول علي ، ويقال : عالت الفريضة إذا زادت سهامها ، وقد أعلتها أنا إذا زدت في سهامها ، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ، ثم اختص بحسب العرف بالميل إلى الجور والظلم . فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب إليه الأكثرون .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : قال بعضهم : المراد أن لا تفتقروا ، يقال : رجل عائل أي فقير ، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته ، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه خطأ في اللغة ؛ لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما ، فأما تفسير ( تعولوا ) بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين ، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال . وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا ، وهو أنه تعالى قال في أول الآية : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) ولم يقل أن تفتقروا ، [ ص: 145 ] فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل ، وذلك هو الجور لا كثرة العيال .

                                                                                                                                                                                                                                            وأنا أقول :

                                                                                                                                                                                                                                            أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا ، ولكنه ذكر فيه وجها آخر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف ، وأيضا : فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين ؟ وكيف لا نقول ذلك ، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ : " ذلك أدنى أن لا تعيلوا " وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة ، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى ، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثاني : فنقول : إنك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد ، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والأعلام ، وشدة بلادتك ، ما عرفت أن هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد ، وبيان فساده من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه يقال : عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرت ، وهذا المعنى قريب من الميل ؛ لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الإرادة ، وإذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا ، وإذا لم تكثروا لم يقع الإنسان في الجور والظلم ؛ لأن مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة ، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير إلى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن الإنسان إذا قال : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، فإذا قيل له : ما معناه ؟ حسن أن يقال : معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة ، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة ، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى . وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض ، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه ، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور ، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور ، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور ، فجعل هذا تفسيرا له لا على سبيل المطابقة ، بل على سبيل الكناية والاستلزام ، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله ، والشافعي لما كان محيطا بوجوه أساليب الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام ، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب ، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : ما ذكره صاحب " الكشاف " وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله يعولهم . كقولهم : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن ، وأن الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أومملوكة فجوابه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكره القفال رضي الله عنه ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا [ ص: 146 ] اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا ، وحينئذ تقل العيال ، أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الأمر كذلك ، فظهر الفرق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة فإذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر ، فيقع الزوج في المحنة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الرابع : وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم ، فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح ؛ لأنه لو حمل على الجور لكان تكرارا ؛ لأنه فهم ذلك من قوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا ) أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن نقول : هب أن الأمر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق إلى ذكر التفسير الأول ، لكن على سبيل الكناية والتعريض ، وإذا كان الأمر كذلك فقد زال هذا السؤال . فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية