الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا ، فإن الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب " فأمره بالإشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه ، فثبت بما ذكرنا من الإجماع والمعقول أن الأحوط هو الإشهاد . واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه هل هو مصدق ؟ وكذلك لو قال : أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق ؟ قال مالك والشافعي : لا يصدق ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصدق ، واحتج الشافعي بهذه الآية فإن قوله : ( فأشهدوا عليهم ) أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، وأيضا قال الشافعي : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم ، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع ، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال : لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم : قد دفعت إليك ؛ لأنه لم يأتمنه ، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي : قد دفعت مالك إليك أن لا يصدق ؛ لأنه لم يأتمنه ، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه ، فيقال له : إن قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه ، أما النقض بالقاضي فبعيد ؛ لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة ، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ، ويلزم التسلسل ، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم ، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : [ ص: 157 ] أن شفقته أتم من شفقة الأجنبي ، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي ، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول : إن كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان ، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره ، فههنا يجب أن يقبل قوله ، وإلا لصار ذلك مانعا للناس من قبول الوصاية ، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم ، فأما الإشهاد عند الرد إليه بعد البلوغ فإنه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة ، وهو قوله : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الأيتام والصبيان ، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم :

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية