الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

في سياق الحث على الجهاد في سبيل الله، ومواجهة الصادين عن دين الحق، جاء قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة:195)، وهذا الجزء من الآية تضمن أمراً بالإنفاق في سبيل الله، وتضمن أيضاً نهياً عن الإلقاء إلى التهلكة. وإذا كان الأمر بالإنفاق واضحاً، فإن النهي عن الإلقاء في التهلكة يحتاج إلى بعض البيان، ومن ثم كان الوقوف على سبب نزول هذه الآية كاشفاً وموضحاً للمقصود من هذا النهي الوارد فيها.

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية، ما رواه البخاري في "صحيحه" عن حذيفة رضي الله عنه، قال: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، قال: نزلت في النفقة.

وعلى الرغم من أن هذه الرواية أصح ما قيل في سبب نزول هذه الآية، وهي المعُتَمَد في بيان سبب نزولها، إلا أنها جاءت مجملة؛ إذ غاية ما أفادته أن الآية نزلت في الحث على الإنفاق في سبيل الله.

وقد جاء تفصيل الإجمال في حديث البخاري، فما رواهأبو داود عن أسلم أبي عمران، قال: (غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه! مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية)، هذا لفظ أبي داود، وقد قال الترمذي بعد أن ساق نحواً من هذه الرواية: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وهذه الرواية والتي قبلها، تفيد أن النهي في الآية منصب على من رَكَن إلى الدنيا، وانشغل بشؤونها وشجونها، وأقعده ذلك عن الدفاع عن الدين، فيكون المراد من النهي فيها الحث على الجهاد في سبيل الله. ويشهد لهذا المعنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله). رواه الطبري بسنده. وهذا المروي عن ابن عباس في معنى الآية مروي عن كثير من التابعين، كما قال ابن أبي حاتم.

ووراء هاتين الروايتين جاءت روايات أخرى في سبب نزول هذه الآية، من ذلك ما رواه الطبراني عن أبي جبيرة بن الضحاك، قال: (كانت الأنصار يتصدقون، ويعطون ما شاء الله، فأصابتهم سَنَة - جدب وقحط - فأمسكوا، فأنزل الله: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة}، قال السيوطي: إسناده صحيح. وسبب النزول هذا يفيد أن النهي لمن خشي الفقر، فأمسك ماله، وبالتالي الآية حاثة له على الإنفاق وعدم الخوف من الفقر. ويشهد لسبب النزول هذا ما روي عنابن عباس رضي الله عنه، قال: لا يقولن أحدكم: إني لا أجد شيئاً، إن لم يجد إلا مشقصاً -نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض- فليتجهز به في سبيل الله. رواه الطبري بسنده.

وروى الطبراني أيضاً عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: (كان الرجل يذنب الذنب، فيقول: لا يُغفر لي، فأنزل الله: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة}، قال السيوطي: إسناده صحيح. وعلى ضوء سبب النزول هذا، يكون المراد من النهي في الآية، عدم القنوط من رحمة الله، وحسن الظن بمغفرته لذنوب عباده.

وروى الطبري عن عكرمة، قال: لما أمر الله بالنفقة، فكانوا -أو بعضهم- يقولون: ننفق فيذهب مالنا، ولا يبقى لنا شيء! فقال: أنفقوا {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، قال: أنفقوا، وأنا أرزقكم. وهذه الرواية قريبة من حيث المعنى من رواية الطبراني المتقدمة، حيث إنها تفيد أن الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله مخافة الفقر يؤدي بالعبد إلى الهلكة؛ لأنه مناف للاعتقاد بأن {الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات:58)، وهو أيضاً مخالف لما أمر الله به من الإنفاق في سبيله في مواطن عديدة من كتابه.

ومما هو على صلة ببيان سبب نزول هذه الآية، ما رواه الطبري وغيره عن مدرك بن عوف، قال: (إني لعند عمر رضي الله عنه، فقلت: إن لي جاراً رمى بنفسه في الحرب، فقُتل، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا، لكنه اشترى الآخرة بالدنيا"، قال ابن حجر: إسناده صحيح.

وعلى ضوء ما ذُكر في سبب نزول هذه الآية، يكون مضمونها -كما قال ابن كثير-: "الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده".

ثم ها هنا أمر جدير بالتنبيه والتنويه، وهو أن فريقاً من الناس قد يفهم من هذه الآية القعود عن الجهاد في سبيل الله، بحجة أن الجهاد في سبيل الله من باب الإلقاء إلى التهلكة؛ وأيضاً فإن فريقاً آخر من الناس، يتخذ هذه الآية مطية ومركباً، ليجعل كل ألوان التضحية في سبيل الله إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وهذا في الواقع خلاف مقصود الآية؛ إذ إن سبب نزول هذه الآية -كما تبين- أوضحَ أنها نزلت في الذين ركنوا إلى شيء من الدنيا، وقدموها على الآخرة، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أن المطلوب الأهم القيام بأمر الدعوة إلى هذا الدين، والدفاع عنه؛ لما في ذلك من حفظ للدين والدنيا معاً، ولما في التفريط به من خسران لهما معاً. وقد قال أهل العلم بهذا الصدد: "طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة".

وعلى هذا، فإن التارك لما شرعه الله وأمر به، هو الملقي بنفسه وبغيره إلى التهلكة في الدنيا والآخرة، أما العامل بما أمر الله به فهو الناجي من الهلاك في الدنيا، والفائز بمرضاة الله في الآخرة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة