الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وذروا ما بقى من الربا

وذروا ما بقى من الربا

وذروا ما بقى من الربا

من أنواع المعاملات التي جاء الإسلام بتحريمها، وتوعد من يتعامل بها بحرب من الله ورسوله، التعامل بالربا، قال تعالى في تقرير هذا الأصل العظيم: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة:278). وقفتنا في هذه السطور مع سبب نزول هذه الآية.

يذكر المفسرون ثلاث روايات حول سبب نزول هذه الآية:

الرواية الأولى: أن الآية نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يربون لـ ثقيف ، فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد، وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا، وضع عن الناس غيرنا، فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:279)، فعرف بنو عمرو أن لا يَدَان لهم بحرب من الله ورسوله.

الرواية الثانية: روي عن عطاء وعكرمة أن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجِدَاد -قطف الثمار- قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي، إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف، وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهما، وأنزل الله تعالى هذه الآية. فسمعا، وأطاعا، وأخذا رؤوس أموالهما.

الرواية الثالثة: أن الآية نزلت في العباس وخالد بن الوليد، روى الواحدي عن السدي، قال: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه، ربا العباس بن عبد المطلب)، رواه الترمذي وابن ماجه.

والروايات الثلاث لا تعارض بينها، ولا يمنع أن يجتمع على نزول الآية أكثر من سبب، كما يقول المفسرون.

ومحصل هذه الروايات الثلاث، أن الآية نزلت في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا، كانوا أربوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم، وبقي بعض، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، وحرَّم عليهم أخذ ما بقي منه، وتوعد من يفعل ذلك بحرب من الله ورسوله.

وهذه الآية أصل عظيم في المعاملات الفاسدة تقتضي نقضها. وقد أتبعها سبحانه بآية أخرى، تعلن الحرب على من يستمر على التعامل في الربا، قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، قال ابن كثير: "وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار. قال ابن عباس: {فأذنوا بحرب}، أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم قرأ: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: من كان مقيماً على الربا، لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه.

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن وابن سيرين، قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا، وإلا وضع فيهم السلاح.

وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل، وجعلهم بهرجاً أينما أتوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا؛ فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة.

ختاماً، أثبتت الدراسات الاقتصادية إبان الأزمة التي شهدتها الاقتصاديات العالمية في السنوات الأخيرة، أن السبب الرئيس وراء هذه الأزمة، إنما هو التعامل الربوي، وهذا ما دفع كثيراً من الدول إلى إعادة النظر في آليات معاملاتها المالية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة