الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نشأة النصرانية وتطورها ( 2 )

نشأة النصرانية وتطورها ( 2 )

نشأة النصرانية وتطورها ( 2 ) كنا قد تكلمنا في مقال سابق عن نشأة النصرانية وتطورها ، ووصلنا إلى الطور الذي تحولت فيه النصرانية من دين مضطهد إلى دين رسمي ، وذلك بعد أن اعتنقه ملك الرومان قسطنطين ، وأصدر مرسوما ملكيا باعتبار الدين النصراني دينا مسموحا به في الدولة الرومانية ، وأرجع أملاك النصارى المصادرة ، ورد لهم هيبتهم بين الناس .
غير أن فترة الرخاء تلك قد أظهرت ما كان مستترا فترة الاضطهاد من التفرق والاختلاف في المذاهب والآراء حول قضايا جوهرية من العقيدة النصرانية ، الأمر الذي أقلق الملك قسطنطين فما كان منه أمام هذه المعضلة إلا أن عقد مجمعاً - مجمع نيقية سنة 325م - دعا إليه علماء النصارى ليتباحثوا فيما آل إليه أمر النصرانية من التفرق والشتات في المذاهب والآراء ، فحضر المجمع - حسب تقدير بعض مؤرخيهم - ( 2048 ) أسقفاً ، وكانت آراءهم متباينة أشدَّ التباين ، فمنهم من يقول : إن المسيح وأمه إلهان ، وهم البربرانية ، ومنهم من يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها ، ومنهم من كان يقول : لم تحبل مريم بعيسى تسعة أشهر ، وإنما مرَّ في بطنها كما يمرُّ الماء في الميزاب ، ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان مخلوق من اللاهوت ، ويرون الله جوهراً قديماً واحداً ، وأقنوماً واحداً ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بالروح القدس ، إلى آراء كثيرة متعارضة متناقضة ، فاجتمع الأساقفة لمناقشة تلك الآراء ، فاختلفوا اختلافا شديداً ، ورأى ( 318 ) أسقفاً القول بألوهية المسيح ، وأنه ابن الله - في زعمهم - أي من ذات الله ، وأنه مساو لله جل وعلا ، وأنه مولود منه غير مخلوق ، كما رأوا أن هذا الإله تجسد في صورة البشر لخلاص الناس ثم ارتفع إلى السماء بعد قيامته من الموت ، فاستهوى هذا الرأي الملك الروماني ، فقرره ، وفرضه على بقية الأساقفة ، وقرروا لعن رأي أريوس الذي كان يعتقد أن المسيح عبد مخلوق محدث بعد أن لم يكن ، ولم يكن المخالف هو أريوس وأتباعه وحدهم ، بل إن جل المجتمعين لم يوافقوا على قرارات المجمع ، وإن لم تتفق آراؤهم فيما بينهم .
غير أن قوة السيف كانت هي الحكم في نهاية المطاف فاختتم مجمع نيقية جلساته بتلك القرارات ، وأصبح من يخالف تلك الآراء متهماً بالهرطقة - الكفر - معرضا نفسه للمحاسبة والعقاب الشديد ، فعاشت النصرانية طورا آخر من أطوار الاضطهاد ولكنه بسيف النصرانية هذه المرة .
ونظرا لأن قرارات مجمع نيقية لم تتخذ بناء على دلائل وبراهين يسلم بها المخالف ، ويقتنع بها الموافق ، فقد طرأ للملك الروماني ما جعله يغير رأيه ويرجع إلى رأي أريوس ، فعقد مجمعا آخر - مجمع صور سنة 334م - رجع فيه عن القول بألوهية المسيح ، وقرر فيه إعادة أريوس إلى الكنيسة وخلع " أثنا سيوس " وكان من أشدِّ أنصار قرارات مجمع نيقية ، وبهذا يتبين مدى تلاعب الإمبراطور بهذا المجمع الهام في تاريخ النصرانية ، ويتبين مدى خلو تلك المجامع عن منطق الحجة والدليل في إقناع المخالف ، واعتمادهم على قوة سلطة الحاكم في ترجيح الآراء ، وذلك في أعظم القضايا وأخطرها .
لهذا لم تكن تلك المجامع ذات أثر عملي في فض النزاع ، فما إن يعود كل أسقف إلى بلده وموطن دعوته حتى يظهر ما كان يدعوا إليه إن سرا وإن جهراً ، وكأن شيئا لم يكن ، وهذا ما دعا النصارى إلى تكرار سنة الملك الروماني في عقد المجامع - علَّها أن تحلَّ خلافاتهم - فعقدوا مجامع أخرى كمجمع القسطنطينية ( 381م ) ، ومجمع أفسس ( 431م ) ومجمع خلقدونية ( 451م ) ، والمجمع الثامن ( 869م ) والذي قرر فيها قول كنيسة روما بأن الروح القدس انبثق من الأب والابن معا ، ولم يوافق على ذلك بطريرك القسطنطينية فانقسمت الكنيسة بسببه إلى قسمين :
1- الكنيسة الغربية ويتزعمها البابا في روما وهم الكاثوليك .
2- الكنيسة الشرقية ويتزعمها بطريك القسطنطينية وهم الأرثوذكس .
ثم انعقد المجمع الثاني عشر الذي عقد سنة 1215م وتقرر فيها أن العشاء الرباني - شعيرة من شعائر النصارى - يتحول إلى جسد ودم المسيح ، وأن الكنيسة البابوية الكاثوليكية تملك حق الغفران ، وتمنحه لمن تشاء .
ثم انعقد مجمع روما 1769م وتقرر فيه عصمة بابا روما .
فهذه لمحة تاريخية عن المجامع النصرانية التي لعبت دورا هاما في إقرار أو رفض ما تراه من المذاهب والآراء ، ولكنها لم تحقق ما كانت تهدف إليه من تجمعهم ، بل لا يخرج المجتمعون من مجامعهم تلك إلا وهم أشدُّ تفرقاً وأعظمُ نفوراً ، فمجامعهم كما وصفها ابن القيم : " كانت تجتمع على الضلال ، وتفترق على اللعن، فلا ينفض مجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون " أهـ . ، فهم كما وصفهم سبحانه { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة: من الآية77) ، نسأل المولى عز وجل أن يثبتنا على دينه ، وأن يبعثنا عليه ، ونحمده تعالى أن جعلنا من عباده المسلمين ولم يجعلنا يهودا أو نصارى مغضوبا عليهم وضالين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة