الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أداء الشهادة.. الحكم.. وشروط تحملها وأدائها

السؤال

عزيزي الشيخ: هل أستطيع أن أمتنع عن الشهادة في قضية لصديق، إذا علمت أن شهادتي ستلحق بي الضرر؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن أداء الشهادة في حقوق العباد فرض في الأصل، لكنه قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: أداء الشهادة فرض كفاية؛ لقول الله تعالى: {وأقيموا الشهادة لله}، وقوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}، فإذا تحملها جماعة وقام بأدائها منهم من فيه كفاية، سقط الأداء عن الباقين؛ لأن المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن امتنع الكل أثموا جميعا؛ لقول الله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}، ولأن الشهادة أمانة، فلزم الأداء عند الطلب. وقد يكون أداء الشهادة فرض عين إذا كان لا يوجد غيره ممن يقع به الكفاية، وتوقف الحق على شهادته فإنه يتعين عليه الأداء؛ لأنه لا يحصل المقصود إلا به. إلا أنه إذا كانت الشهادة متعلقة بحقوق العباد وأسبابها أي في محض حق الآدمي، وهو ما له إسقاطه كالدين والقصاص فلا بد من طلب المشهود له لوجوب الأداء، فإذا طلب وجب عليه الأداء، حتى لو امتنع بعد الطلب يأثم .اهـ.

ويشترط لوجوب أداء الشهادة ألا يكون في أدائها ضرر على المؤدي.

جاء في كشاف القناع: (ويشترط في وجوب التحمل و) وجوب (الأداء أن يدعى إليهما من تقبل شهادته) لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] . (و) أن (يقدر) الشاهد (عليهما بلا ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو أهله أو عرضه، ولا تبذل في التزكية) أي وبلا ضرر يلحقه بتبذل نفسه إذا طلبت منه تزكيتها، فإن حصل له ضرر بشيء من ذلك لم تجب؛ لقوله: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة: 282]. اهـ.

وفي الروض المربع: (وأداؤها) أي أداء الشهادة (فرض عين على من تحملها، متى دعي إليه) لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (و) محل وجوبها إن (قدر) على أدائها (بلا ضرر) يلحقه (في بدنه أو عرضه، أو ماله أو أهله) .اهـ.

قال ابن قاسم في حاشيته: وإن قدر بلا ضرر في بدنه، من ضرب أو حبس، أو مشقة سير أو ماله بأخذ شيء منه، أو تلف ونحو ذلك، أو أهله لغيبته عنهم، وفي عرضه لخوف التبذل بالتزكية، فإن حصل له ضرر بشيء من ذلك، لم تجب وليس المراد أن يلوموه عليها، فإنه ليس بمانع. اهـ.

وفي الشرح الممتع لابن عثيمين: قوله: «وقدر» هذا هو الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء، فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومن القواعد المقررة المأخوذة من هذه الآية أنه لا واجب مع عجز، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عن أدائها فإنه لا يلزمه للعجز.

الشرط الثالث: انتفاء الضرر، ولهذا قال: «بلا ضرر في بدنه» بأن خاف أن يضرب حتى يتضرر. قوله: «أو عرضه» بأن خاف أن يغتابه المشهود عليه، أو ما أشبه ذلك.

قوله: «أو ماله» بأن خاف أن يحرق دكانه، أو يكسر زجاج سيارته، أو ما أشبه ذلك. قوله: «أو أهله» بأن خاف أن يؤذى ولده أو زوجته، أو أباه، أو ما أشبه ذلك. فإذا خاف الضرر فإنه لا يلزمه لا التحمل ولا الأداء في ظاهر كلام المؤلف، ونحن نقول: أما في البدن والمال والأهل فمسلَّم أنه إذا خاف الضرر في هذه الأشياء الثلاثة فإنه يسقط عنه واجب الشهادة تحملاً أو أداء؛ لما أشرنا إليه من الآية وهي: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وأما العِرْض، فينظر إذا كان الضرر من المشهود عليه حاصلاً أو غير حاصل؛ فإن الغالب أنه لا يتضرر به، حتى إذا اغتابه عند الناس فإن الناس لا يقيمون وزناً لغيبته؛ لأنه مشهود عليه فيقال: ما اغتابه إلا لأنه شهد عليه، أما إذا كان الضرر كبيراً بحيث يتأثر عرضه، وتسقط عدالته عند الناس، وما أشبه ذلك، فقد يسلم كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ فالعرض إذاً فيه تفصيل: إذا كان الضرر محققاً وكبيراً، فهذا قد يسقط الواجب من أداء الشهادة أو تحملها، وإذا كان الضرر ليس كبيراً، أو قد لا يوجد ضرر أبداً، مثل أن يكون انتهاك العرض من المشهود عليه، فإن ذلك لا يمنع من وجوب الشهادة تحملاً أو أداء. اهـ.

فإن كان أداؤك للشهادة سيترتب عليه ضرر عليك، فلا يجب عليك أداء الشهادة حينئذ.

وأما تضرر الشاهد بما سيشهد به فلا يسقط وجوب أداء الشهادة، فالمسلم يشهد بالحق ولو على نفسه؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {النساء:135}.

قال ابن كثير: {ولو على أنفسكم} أي: اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .اهـ.

فيجب على الشخص أداء الشهادة وإن كان ما سيشهد به يضره.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني