الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول الصحيح في إيمان المقلد

السؤال

هل الشيخ عبد المجيد الزنداني يقول بعدم التقليد في العقيدة للعامي؟ وهل من يقول بعدم التقليد في العقيدة يعتقد صحة اعتقاد العامي أم لا؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالذي اطلعنا عليه من كلام الشيخ الزنداني في كتابه: البرهان شرح كتاب لإيمان ص 20 ـ لا يفيد نسبة هذا القول إليه، فقد حكى الخلاف في المسألة، ونسب للجمهور القول بصحة إيمان المقلد، وكأنه يميل إليه، وهذا نص كلامه: العلم طريق الإيمان، دل على ذلك قول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ {محمد: 19} وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ {إبراهيم: 52} لذلك خلق الله لنا أدوات العلم وأرسل الرسل لتعليمنا وأقام الحجج والآيات من حولنا، لتكون دليلاً وبرهاناً على صدق الإيمان به سبحانه وتعالى، ومن لم يقم إيمانه على العلم فهو مقلد لغيره في إيمانه، وقد اختلف العلماء في صحة إيمان المقلد، فمنهم من قال بأن إيمانه غير صحيح، مستدلين بقوله سبحانه وتعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {النجم: 39} وقالوا: والمقلد ليس له سعي في إيمانه، لأنه يقبل قول من يقلده بغير حجة، لكن جمهور العلماء حكموا بصحة إيمان المقلد، لأن أصل الإيمان موجود في فطرة الإنسان التي فطر عليها، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا {الروم: 30} وقال عليه الصلاة والسلام: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ـ أخرجه البخاري ومسلم، فالأصل في الإنسان الإيمان، وهو يقلد في أمر قد فطره الله عليه. اهـ.
وقول الجمهور هو الصواب، ومن يقول بخلافه يلزمه الحكم بعدم إيمان المقلد!! وقد صرح به بعضهم، قال الزركشي في البحر المحيط: جزم الأستاذ أبو منصور بوجوب النظر، ثم قال: فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل، فاختلفوا فيه، فقال أكثر الأئمة: إنه مؤمن من أهل الشفاعة، وإن فسق بترك الاستدلال، وبه قال أئمة الحديث، وقال الأشعري وجمهور المعتزلة: لا يكون مؤمنا، حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين. انتهى.

وقد اشتهرت هذه المقالة عن الأشعري: أن إيمان المقلد لا يصح، وقد أنكر أبو القاسم القشيري، والشيخ أبو محمد الجويني، وغيرهما من المحققين صحته عنه، وقيل: لعله أراد به قبول قول الغير بغير حجة، فإن التقليد بهذا المعنى قد يكون ظنا، وقد يكون وهما، فهذا لا يكفي في الإيمان، أما التقليد بمعنى الاعتقاد الجازم لا الموجب، فلم يقل أحد أنه لا يكفي في الإيمان، إلا أبو هاشم من المعتزلة. اهـ.

وقد علق الشوكاني في إرشاد الفحول على قول الأستاذ أبي منصور، فقال: فيا لله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود، وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك، ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك أدلته، وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن، وإن فسق، فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه، بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، بل حرم كثير منهم النظر إلى ذلك، وجعله في الضلالة والجهالة، ولم يخف هذا من مذهبهم، حتى على أهل الأصول والفقه. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء، حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة، قالوا: لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص، وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها؟ وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص، بل بطرق أخر: من اضطرار، وكشف، وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك. اهـ.

ولأبي المظفر السمعاني كلام متين في هذه المسألة ننقله بطوله لفائدته، حيث نقل ـ رحمه الله ـ في كتاب قواطع الأدلة عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء أنه لا يجوز للعامي التقليد في الأصول! وذكر وجه قولهم ودليله، ثم قال: واعلم أن أكثر الفقهاء على خلاف هذا، وقالوا: لا يجوز أن نكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك المشقة العظيمة والبلوى الشديدة، وهي في الغموض والخفاء أشد من الدلائل الفقهية في الفروع، ولهذا خفي على كثير من العقلاء مع شدة عنايتهم في ذلك واهتمامهم العظيم، فصارت دلائل الأصول مثل دلائل الفروع، ولأنا نحكم بإيمان العامة ونقطع أنهم لا يعرفون الدلائل ولا طرقها وإنما شأنهم التقليد والاتباع المحض، وإنما طريقهم أخذ شيئين في التقليد، أحدهما: أنهم عرفوا أن العلماء قد قالوا ما قالوا عن حجة ودليل، فيكون اتباعهم لأقوال العلماء اعتقادا عن دليل بهذا الوجه، وإما: لأن العوام يعلمون أن العلماء يقولون ما يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرفوا إقامة النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات ما يعجز عنه البشر وتحقق في قلوبهم ثبوته بهذا الطريق، وأنه يقول ما يقوله عن الله عز وجل، فحصلت عقائدهم عن علم ودليل قام لهم فيها بهذا الوجه، وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد في العوام؟ يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه؟! بل يكون أكثر العوام بحيث لو عرض عليهم تلك الدلائل لم يفهموها أصلا، فضلا عن أن يصيروا أصحاب دلائل ويقفوا على العقائد بالطرق البرهانية، وإنما غاية العامي هو أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى به ربه، من العلماء ويتبعهم في ذلك ويقلدهم ثم يسلمون عليها بقلوب سليمة طاهرة عن الأدغال والأهواء، ثم يعضون عليها بالنواجذ فلا يحولون ولا يزولون ولو قطعوا إربا، فهنيئا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام، والورطات التي تورطوا فيها حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك، ودخلت عليها الشبهات العظيمة وصاروا في الآخرة متحيرين عمين، ولهذا لا يوجد منهم متورع متعفف إلا القليل، لأنهم أعرضوا عن ورع اللسان وأرسلوا بما في صفات الله تعالى بجرأة عظيمة وعدم مهابة وحرمة، ففاتهم ورع سائر الجوارح، وذهب ذلك عنهم بذهاب ورع اللسان، والإنسان كالبنيان يشد بعضه بعضا، وإذا خرب جانب منه تداعى سائر جوانبه للخراب، ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه الشبه القوية، بل يدعون لأنفسهم مثل ذلك الدليل سواء، وغاية الواحد منهم في الفلح والعلو على صاحبه بزيادة الحذق في طريقة الجدل وبينهم أوضاع يناظرون عليها ويطالبون الخصم بطردها، فإذا لم يفوا بطردها سموها انقطاعا وعجزا، على أنا لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد اليقين ويزداد به ثقة فيما يعتقده وطمأنينة، وإنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا جميع المسلمون سلوك طريقه، وزعموا أنه من لم يفعل ذلك فلم يعرف الله تعالى، ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع، وهذا هو الخطية الشنعاء والداء العضال، وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام، ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف؟ ممن يقومون بالشرائط التي يعتبرونها إلا الفذ الفادر والشاذ النادر، ولعله لا يبلغ عقد العشرة، فمتى يجد المسلم من قلبه أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع، ويعتقد أنه لا عقيدة لهم في أصول الدين أصلا، وأنهم أمثال البهائم والدواب المسخرة... اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني