الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مدى صحة هذه المقولة: إن من رحمة الله بنا أنه لا يؤاخذنا على ما نراه في المنام"

السؤال

سمعت شيخًا يقول: إن من رحمة الله بنا أنه لا يؤاخذنا على ما نراه في المنام، فهل هذا فعلًا من رحمة الله، رغم أنه شيء ليس بأيدينا؟ يعني أن عدم معاقبنا على ما رأينا في منامنا هي رحمة منه سبحانه.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالله رحيم بعباده بر بهم، ومظاهر رحمته كثيرة جدًّا:

ومن مظاهر رحمته في تكليف عباده: أنه لا يؤاخذهم بالخطأ، والنسيان، ولا بالإكراه، ولا بما لا قدرة لهم عليه.

ومن رحمته بهم: أنه رفع التكليف عنهم حال النوم، فلم يؤاخذ سبحانه من تفوته الصلاة مثلًا بسبب نومه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ.

قال الشيخ ابن عثيمين: فهؤلاء ثلاثة رفع عنهم القلم، وذلك أن رحمة الله عز وجل تسبق غضبه، وعفوه يسبق عقوبته؛ فلهذا رفع القلم عن هؤلاء. انتهى

ومن تلك الرحمة: أن العبد لو رأى صورة محرمة في نومه مثلًا، لم يؤاخذه الله بذلك، فهذا وإن كان خارجا عن قدرة الإنسان وتصرفه، فعدم مؤاخذته به هو من رحمة الله تعالى، فإنه سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يكلف العبد ما لا يطيقه؛ لكمال رحمته سبحانه وبحمده.

وقد تنازع الأصوليون في تكليف ما لا يطاق، فمنهم من منعه؛ لقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا {البقرة:286}، ولأنه مقتضى رحمة الله تعالى، ومنهم من جوزه؛ لأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ومع ذا، فجماهير المجوزين لتكليف ما لا يطاق، يقررون أنه غير واقع في الشريعة -بحمد الله-، ولا شك في أن هذا من كمال رحمته سبحانه بعباده، ولو شاء أن يكلفهم به لفعل، قال الطوفي -رحمه الله-: وَقَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ»، إِشَارَةٌ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ، وَنُكْتَتِهِ الَّتِي تَاهَتْ فِيهَا الْعُقُولُ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْقِهِ تَصَرُّفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَكْوِينِيٌّ بِحُكْمِ إِيجَادِهِ، وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمْ؛ فَبِذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَغَيْرِهِ، وَ{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ:23]، وَهُوَ عَدْلٌ بَاطِنٌ؛ لِمَا سَنُقَرِّرُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.

وَالتَّصَرُّفُ الثَّانِي: تَكْلِيفِيٌّ بِحُكْمِ اسْتِدْعَائِهِ مِنْهُمُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ، سَلَكَ مَعَهُمْ مَسْلَكَ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مُحَالًا فِي الظَّاهِرِ، بَلْ أَزَاحَ جَمِيعَ عِلَلِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا الْمَحْرَمُ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، وَالرَّجُلُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَحْمَلٌ يَسْوى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، وَلَا الْأُصُولِ. انتهى.

وبه تعلم أن كلام هذا القائل لا إشكال فيه، ولا غبار عليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني