الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المسؤولية الجنائية والمدنية للصبي غير البالغ

السؤال

هل يؤاخذ المراهق المميز الذي لم يبلغ؟ أقصد لو أنه قتل أو سرق هل يقام عليه الحد؟ لأني سمعت أن المراهق المميز يقع عليه الحد ولو لم يبلغ.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الصبي غير البالغ لا يقام عليه حد ولا قصاص باتفاق الفقهاء، لكن الصبي المميز يعزر ويؤدب إذا ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص. وأما الضمان المالي فلا يشترط له التكليف، ولا فرق فيه بين الصبي والبالغ، فالصبي ضامن مطلقا لما يتلفه -مميزا كان أو غير مميز-.

جاء في كتاب: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي لعبد القادر عودة:

تقوم المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية على عنصرين أساسيين، هما الإدراك والاختيار، ولهذا تختلف أحكام الصغار باختلاف الأدوار التي يمر بها الإنسان من وقت ولادته إلى الوقت الذي يستكمل فيه ملكتي الإدراك والاختيار. والإنسان حين يولد يكون عاجزاً بطبيعته عن الإدراك والاختيار، ثم تبدأ ملكتا الإدراك والاختيار في التكوين شيئاً فشيئاً حتى يأتي على الإنسان وقت يستطيع فيه الإدراك إلى حد ما؛ ولكن إدراكه يكون ضعيفاً، وتظل ملكاته تنمو حتى يتكامل نموه العقلي.
وعلى أساس هذا التدرج في تكوين الإدراك وضعت قواعد المسئولية الجنائية، ففي الوقت الذي ينعدم فيه الإدراك تنعدم المسئولية الجنائية، وفي الوقت الذي يكون فيه الإدراك ضعيفاً تكون المسئولية تأديبية لا جنائية، وفي الوقت الذي يتكامل فيه الإدراك يكون الإنسان مسئولاً جنائياً.
ويتبين مما سبق أن المراحل التي يجتازها الإنسان من يوم ولادته حتى بلوغه سن الرشد ثلاث مراحل: الأولى: مرحلة انعدام الإدراك، ويسمى الإنسان فيها - المرحلة الأولى: انعدام الإدراك: تبدأ هذه المرحلة بولادة الصبي وتنتهي ببلوغه السابعة اتفاقاً، وفي هذه المرحلة يعتبر الإدراك منعدماً في الصبي، ويسمى بالصبي غير المميز، والواقع أن التمييز ليس له سن معينة يظهر أو يتكامل بتمامها، فالتمييز قد يظهر في الصبي قبل بلوغ السابعة، وقد يتأخر عنها تبعاً لاختلاف الأشخاص واختلاف بيئاتهم واستعدادهم الصحي والعقلي، ولكن الفقهاء حددوا مراحل التمييز أي الإدراك بالسنوات حتى يكون الحكم واحداً للجميع ناظرين في ذلك إلى الحالة الغالبة في الصغار، وقد كان هذا التحديد ضرورياً لمنع اضطراب الأحكام، ولأن جعل التمييز مشروطاً بسن معينة يمكن القاضي أن يعرف بسهولة إن كان الشرط تحقق أم لا؛ لأن هذا الشرط وصف محسوس يسهل ضبطه والتعرف عليه.
ويعتبر الصبي غير مميز ما دام لم يبلغ سنه سبع سنوات ولو كان أكثر تمييزاً ممن بلغ هذه السن؛ لأن الحكم لغالب وليس للأفراد، وحكم الغالب أن التمييز يعتبر منعدماً قبل بلوغ سن السابعة، فإذا ارتكب الصغير أيه جريمة قبل بلوغه سن السابعة فلا يعاقب عليها جنائياً ولا تأديبياً. فهو لا يحد إذا ارتكب جريمة توجب الحد، ولا يقتص منه إذا قتل غيره أو جرحه، ولا يعزر.
ولكن إعفاءه من المسئولية الجنائية لا يعفيه من المسئولية المدنية عن كل جريمة يرتكبها، فهو مسئول في ماله الخاص عن تعويض أي ضرر يصيب به غيره في ماله أو نفسه، ولا يرفع عنه انعدام التمييز المسئولية المدنية كما يرفع المسئولية الجنائية؛ لأن القاعدة الأصلية في الشريعة الإسلامية أن المال والدماء معصومة؛ أي غير مباحة، وأن الأعذار الشرعية لا تنافي هذه العصمة؛ أي أن الأعذار لا تهدر الضمان ولا تسقطه، ولو أسقطت العقوبة.

432- المرحلة الثانية: الإدراك الضعيف: تبدأ هذه المرحلة ببلوغ الصبي السابعة من عمره وتنتهي بالبلوغ، ويحدد عامة الفقهاء سن البلوغ بخمسة عشر عاماً، فإذا بلغ الصبي هذه السن اعتبر بالغاً حكماً ولو كان لم يبلغ فعلاً. ويحدد أبو حنيفة شخصياً سن البلوغ بثمانية عشر عاماً، وفي قول بتسعة عشر عاماً للرجل وسبعة عشر عاماً للمرأة، والرأي المشهور في مذهب مالك يتفق مع رأي أبي حنيفة إذ يحدد أصحابه سن البلوغ بثمانية عشر عاماً، بل إن بعضهم يرى أن يكون تسعة عشر عاماً.
وفي هذه المرحلة لا يسأل الصبي المميز عن جرائمه مسئولية جنائية، فلا يحد إذا سرق أو زنا مثلاً، ولا يقتص منه إذا قتل أو جرح، وإنما يسأل مسئولية تأديبية فيؤدب على ما يأتيه من جرائم، والتأديب وإن كان في ذاته عقوبة على الجريمة إلا أنه عقوبة تأديبية لا جنائية، ويترتب على اعتبار العقوبة تأديباً أن لا يعتبر الصبي عائداً مهما تكرر تأديبه، وأن لا يوقع عليه من عقوبات التعزير إلا ما يعتبر تأديباً كالتوبيخ والضرب. ويسأل الصبي المميز مدنياً عن أفعاله ولو أنه لا يعاقب عليها بعقوبة جنائية للأسباب التي ذكرناها من قبل عند الكلام على الصبي غير المميز.
433 - المرحلة الثالثة: مرحلة الإدراك التام: وتبدأ ببلوغ الصبي سن الرشد، أي بلوغه العام الخامس عشر من عمره على رأي عامة الفقهاء، أو ببلوغه العام الثامن عشر على رأي أبي حنيفة ومشهور مذهب مالك. وفي هذه المرحلة يكون الإنسان مسئولاً جنائياً عن جرائمه أياً كان نوعها، فيحد إذا زنا أو سرق، ويقتص منه إذا قتل أو جرح، ويعزر بكل أنواع التعازير.

435 - عقوبة الصبي غير المميز: عقوبة الصبي غير المميز هي كما قلنا عقوبة تأديبية خالصة وليست عقوبة جنائية؛ لأن الصبي ليس من أهل العقوبة.
ولم تحدد الشريعة نوع العقوبات التأديبية التي يمكن توقيعها على الصبيان، وتركت لولي الأمر أن يحددها على الوجه الذي يتراءى له، ومن المسلم به لدى الفقهاء أن التوبيخ والضرب من العقوبات التأديبية.
وترك تحديد العقوبات التأديبية لولي الأمر يمكن من اختيار العقوبة الملائمة للصبي في كل زمان ومكان، فيجوز لولي الأمر أن يعاقب بالضرب أو التوبيخ، أو التسليم لولي الأمر أو لغيره، أو بوضع الصبي في إصلاحية أو في مدرسة، أو بوضعه تحت مراقبة خاصة، إلى غير ذلك من الوسائل التي تؤدي إلى تأديب الصبي وتهذيبه، وإبعاده عن الوسط الذي يعيش فيه.
واعتبار العقوبة تأديبية لا جنائية يؤدي إلى عدم اعتبار الصبي بعد بلوغه عائداً بما عوقب به من قبل البلوغ، وهذا مما يساعده على سلوك الطريق السوي ويمهد لنسيان الماضي .اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى: 78907.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني