الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الكراهية القلبية للأم التي لا تصلي وتجنّب الجلوس معها

السؤال

جزاكم الله خيرًا على ما تقدمونه من العلم، وإحياء الدِّين، ومحاربة البدع.
أنا طالب علم، أدرس العلم الشرعي، وأحفظ القرآن، وقد كنت من قبل أعمل المعاصي تهاونًا، وعندما أدركت العاقبة السيئة، ومكر الله وعذابه لمن أَمِنه؛ تبت توبة نصوحًا إليه -جل وعز-، ومشكلتي مع أمي -وأنا أعي النصوص المخيفة التي يرتجف لها الوجدان من الوعيد للعقوق-، فهي -والعياذ بالله- كافرة، لا تصلّي، وتسب، وتستهزئ بالدِّين، ومعظم أهلها تاركون للصلاة، وتكلّم الرجال، وقد كنت أعقّها من قبل، فألهمني الله التوبة النصوح، وبكيت ندمًا، ولكنها تحقد عليَّ لتديّني، مع أني أصبحت أسارع بالإجابة عندما تأمرني، وأخفض صوتي لها، وعندما تلمّح لحاجتها ألبيها، ولست مقصرًا، ولكنني أكرهها لكفرها، وتركها للصلاة، دون أن أظهر لها ذلك، فأنا لا أقبلها، ولا أصافحها، ولا أجلس معها كثيرًا.
وأنا أطالع كتب التفسير، والفقه، وأحفظ وأراجع القرآن في الليل؛ لهدوء المكان، وأستيقظ متأخرًا، مع المحافظة على الصلاة على وقتها، فتقول أمّي: أنت تتعمد النوم؛ كي تتهرّب من المساعدة، مع أني أستيقظ قبل أن تأتي للمنزل، وتزعم أني عاقّ لأسباب غير معينة، وتأمرني بأشياء عادية ليس لها معنى -مثل وضع ملابسي، والأكل، والنوم- وأشياء لا ضرر عليها فيها، فهل في ذلك شيء من العقوق؟ أرجو عدم إحالتي على فتاوى أخرى؛ لأنني لا أستطيع أن أقيس على ذلك، وجزاك الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا شك أن ترك الصلاة، وسب الدِّين، والاستهزاء به؛ من عظائم الذنوب، وقبائح الأفعال.

وسب الدِّين، والاستهزاء به، ردة -عياذًا بالله-، لكن الحكم على شخص معين بالردة، ليس بالأمر الهين؛ فلا ينبغي لك أن تتسرّع في الحكم على أمّك بالردة؛ فالحكم بالكفر مردّه إلى القضاة، وأهل العلم، لا إلى آحاد الناس.

أما ترك الصلاة؛ فهو من أشنع الذنوب والخطايا، ومن أنكر وجوبها، كفر كفرًا أكبر مخرجًا من الملة بإجماع المسلمين؛ لأنه منكِر لما هو معلوم من الدِّين ضرورة، ومن تركها كسلًا مع إقراره بوجوبها، فقد حكم بكفره طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، لكن جمهور العلماء يقولون: إنه فاسق أشنع الفسق، وليس بكافر، وانظر الفتوى: 130853.

وعلى تقدير أنها ارتكبت ما يوجب الردة، فالواجب عليك برّها، والإحسان إليها بكل حال، كما قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}، فأنت مأمور بمصاحبتها بالمعروف، وألا تطيعها فيما يغضب الله تعالى.

وأمّك بما تفعله من المنكرات -وخاصة ترك الصلاة- على خطر عظيم؛ ولذا فهي أولى الناس بدعوتك إياها إلى الله تعالى، ومحاولة الأخذ بيدها إلى طريق الهداية؛ فابذل في ذلك كل ممكن من النصيحة المباشرة، وغير المباشرة: شفقةً عليها، ورحمةً بها، وأداءً لحقّها؛ فإن أمّك أولى من حرصت على دعوته وهدايته، كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ {الشعراء:214}، فإن استجابت، فالحمد لله، وذاك هو المطلوب، وإن لم تستجب، فتكون ببذلك الوسع في نصحها قد أبرأت ذمّتك، وأعذرت إلى الله تعالى.

ولا تأثم لما يقع في قلبك من كراهتها، وعليك أن تطيعها فيما تقدر عليه، مما لها فيه مصلحة، ولا مضرّة عليك فيه، فهذا هو ضابط ما يجب من البِرّ، كما بيناه في فتاوى كثيرة، انظر منها الفتوى: 365680.

ولو غيّرت مواعيد نومك ليكون أعون لك على مساعدتها، والقيام بما تأمرها به؛ فهو حسن جميل، وربما كانت تلك الطاعة أحب إلى الله من كثير من غيرها من الطاعات.

ولا تأثم إذا غضبت عليك، أو وجدت في نفسها مع قيامك بما تقدر عليه من البِرّ؛ فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

وأما عدم تقبيلها، ومصافحتها، والجلوس إليها، فإن كان يضايقها، ويؤذيها؛ فيخشى أن يكون من العقوق، فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري مبينًا حد العقوق: وَالْعُقُوق بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة، مُشْتَقّ مِنْ الْعَقّ، وَهُوَ الْقَطْع، وَالْمُرَاد بِهِ صُدُور مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِد مِنْ وَلَده مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل، إِلَّا فِي شِرْك أَوْ مَعْصِيَة، مَا لَمْ يَتَعَنَّت الْوَالِد. انتهى.

فعليك أن تفعل من ذلك ما تطِيب به نفسها.

وأما طاعتها في مثل أمر وضع الملابس، ونحوه؛ فينبغي أن تطيعها ما دمت لا تتأذّى بذلك، ففي طاعة أمّك فيما لا معصية فيه لله تعالى خير على كل حال.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني