الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الغرباء الممدوحون المغبوطون

السؤال

أحس بالغربة أنا وأخوات لي في الله (نقصد بالغربة التي ذكرت في حديث طوبى للغرباء)، وأحيانا نشعر أو نشك في أنفسنا أننا قد نكون سائرين في طريق خاطئ، ولكننا لا نفعل غير ما يرضي الله ونحاول إرضاءه سبحانه وتعالى، ولكن نجد في نفس الوقت أن من حولنا من الملتزمين لم يعودوا كما كنا نعرفهم من قبل ملتزمين قلبا وقالبا، وأصبح الالتزام ظاهريا والله أعلم. أرشدونا إلى الطريق الصواب، وكيف لنا أن نثبت في هذا الوسط ونكون فعلا بحق من قيل: لهم طوبى للغرباء .. وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا فطوبى للغرباء.

وهذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء في وقت الغربة، فإنهم يشبهون في تمسكهم بالإسلام السابقين من الصحابة الذين ثبتوا على الدين في غربته الأولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى:

ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا – أي الإسلام – أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس؛ كما قال في تمام الحديث: فطوبى للغرباء. وطوبى من الطيب؛ قال تعالى: طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنَ مَآبٍ {الرعد:29}. فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبًا وهم أسعد الناس. أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام. وأما في الدنيا فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{الأنفال:64}. أي أن الله حسبك وحسب متبعك. وقال تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ {الأعراف: 196}. وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ { الزمر: 36}. وقال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 2، 3}. فالمسلم المتبع للرسول، الله تعالى حسبه وكافيه وهو وليه حيث كان ومتى كان.

ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات هؤلاء الغرباء فقال: بدأ الإسلام غريبًا ثم يعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس. رواه أحمد وصححه الألباني.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: طوبى للغرباء. فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير. من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. رواه أحمد وصححه الألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره.

وللتوسع أكثر في معرفة صفات الغرباء يمكنك الرجوع إلى كتاب "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة" للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله.

هذا ولقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحق لن يزال ظاهرًا حتى في زمن غربة الإسلام على يد طائفة منصورة، فقال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه مسلم.

ولا شك أن ما أشرت إليه من تغير الناس المستقيمين ومن اقتصارهم على استقامة الظاهر دون الباطن هو من مظاهر غربة الدين. لكن عليك بقول بعض السلف الصالح: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.

وننقل لك كلامًا جميلاً لابن القيم في مدارج السالكين، فبعد أن ذكر صفات الغرباء قال:

فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدًّا سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة – الذين يميزونها من الأهواء والبدع – فهم الغرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله عز وجل فيهم: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ.{الأنعام:116}. فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم.

فننصحك أيتها الأخت السائلة أن تفتشي عن الغرباء من محارمك أو من أخواتك المسلمات بصفاتهم السابقة فيمن حولك، فإذا وجدتِهم فالزميهم وتعاوني معهم على الخير والهدى، وأكثري من الدعاء أن يريك الله الحق حقًّا وأن يرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلاً وأن يرزقك اجتنابه.

وراجعي في وسائل الثبات وطرق تقوية الدين الفتوى رقم: 24082، والفتوى رقم: 38289، والفتوى رقم: 5904.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني