الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الجماعة تقتل بالواحد

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم في ثلاثة نفر حملوا صخرة فضربوا بها رأس رجل ضربة واحدة، فعاش بعد ذلك أياما أكل وشرب وتكلم ثم مات : إنهم لا يقسمون في العمد ، إلا على واحد، وإن كان خطأ أقسموا على جميعهم ولم يقسموا على واحد، وكذلك الجواب عنده إذا كانت جراحات وعاش وأكل وشرب ثم مات، فإنه لا يقسم في العمد إلا على واحد، وفي الخطأ على جميعهم، قال: لأنه لا يدرى أمن ضربة هذا مات أم من ضربة هذا؟ فلا يقسمون على واحد; لأنه إن كان مات من ضرب جميعهم، فالدية على جميع قبائلهم .

                                                                                                                                                                                        وأنكر ذلك سحنون، ورأى أنه إذا كان الضرب واحدا كالذين حملوا صخرة، فالقسامة على جميعهم، والعمد والخطأ في ذلك واحد، وإن كان الضرب مفترقا ضربه كل واحد، ضربة هذا في الرأس، والآخر [ ص: 6499 ] في الجوف، وما أشبه ذلك- فإنه لا يقسم إلا على واحد منهم، قال: لأنه لا يمكن أن يقتله أكثر من واحد، ولا يدرى أمات من ضربة هذا، أم من ضربة هذا؟

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: أما إذا كان الضرب واحدا حملوا صخرة فدمغوه بها، أو سقطت من أيديهم فكان خطأ - فإنهم لا يقسمون إلا أنه مات من تلك الضربة، ويقتص في العمد من جميعهم وفي الخطأ من عواقلهم كلها ، وأما إذا افترق الضرب وعلمت ضربة كل واحد منهم، ولم يكونوا قصدوا التعاون لضربه- فإن لهم أن يقسموا على إحدى تلك الضربات لمات منها، ويقتلوا في العمد ويأخذوا الدية من عاقلتهم في الخطأ، إلا أن يتعمدوا القسامة لما يعلم أنها أيسر ، ويتركوا القسامة على التي هي أخوف، فيكون من حق صاحب تلك الضربة ألا يمكنهم من ذلك، وإن كان الضرب عمدا وقصدوا إلى التعاون على قتله، كان لهم أن يقسموا لمات من كل [ ص: 6500 ] الضرب ويقتلون جميعهم، وليس عليهم أن يعينوا الضربة التي مات منها; لأن لهم أن يقتلوا من لم يمت من ضربته ، لقصدهم التمالؤ على قتله، ولو كان منهم الممسك لقتل به، وإن لم يقصدوا التعاون وكانت إحدى الضربات التي مات منها نافذة، ولا يدرى أيهم ضربها ، أو قالوا: لا ندري أيها قتلته، أو لا ندري ضربة هذا من ضربة هذا- كان لهم أن يقسموا لمات من تلك الضربة ، وتفرق الدية عليهم في أموالهم ويسقط القصاص، ومثله لو مات بفور القتل ولم يعش بعد ذلك وقالوا: لا ندري أي الضربات قتلته أو أنفذت إحداهما مقاتله ولا يدرون أيهم ضربها فإنه يسقط القصاص، وتكون فيه الدية في أموالهم، ومثله إذا كانت ضربة أحدهما خطأ والآخر عمدا ومات بالحضرة، فإنه ينبغي ألا يقتل ضارب العمد، فإنه لا يعلم هل قتلته ضربة العمد أو ضربة الخطأ، فلا يقتل بشك، ويكون عليه نصف الدية.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في ضارب الخطأ هل تغرم عاقلته نصف الدية أم لا; لأنه حمل بالشك لإمكان أن تكون ضربة العمد القاتلة، ولا تسقط نصف الدية عن المتعمد; لأن الظالم أحق أن يحمل عليه. [ ص: 6501 ]

                                                                                                                                                                                        ويختلف أيضا إذا كانت الضربتان خطأ، وقال الأولياء لا ندري أيهما قتلته، هل تفض الدية على عواقل الضاربين أو تسقط؟ لأنه حمل بالشك. وقال محمد في كتاب الإقرار الأول: لو أقر رجل فقال: رميت بسهمي، ورمى فلان بسهمه، فأصاب أحد السهمين رجلا فقتله، ولا أدري أي السهمين قتل، قال: هو بمنزلة أن لو رمى جماعة صيدا، فأصاب سهم منها رجلا فقتله، قال: فمذهب أشهب أنه ليس في ذلك كله شيء; لأني وجدت في رجل قتل رجلا ثم هرب حتى ألقى بنفسه في بئر فوجد فيها رجلين كل واحد منهما يقول لصاحبه أنت الذي طرحت نفسك علي، فاختلف فيها ابن القاسم وأشهب فأحدهما يقول: هو هدر، ولا يلحق واحدا منهما شيء وهو في ظني أشهب .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في ظني أن الدية عليهما جميعا ولا أظن إلا أن ذلك في العمد أن تكون الدية عليهما في أموالهما قال وأما الخطأ فهو هدر; لأن العاقلة لا تحمل إلا ما حق عليها.

                                                                                                                                                                                        قلت: فإن لم يكن ذلك بإقرار ولكن بالبينة على رميهم وإن سهما منها أصاب هذا المقتول فقال: وما تغني البينة إذا لم يعرف السهم، وكأنه فرق بين العمد والخطأ في الحمل بالشك; لأن الظالم أحق أن يحمل عليه، والقياس أن يكون هدرا كالخطأ; لأن الظلم من أحدهما بخلاف أن يكونا تعمدا; لأن [ ص: 6502 ] كليهما ظالم .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد، في الضاربين أحدهما عمدا والآخر خطأ: يقسمون على أيهما شاءوا، فإن أقسموا على العمد قتلوه، وكانت لهم على المخطئ دية الجناية. قال محمد: وذلك إذا عرف الخطأ من العمد، وقال أشهب: وإن أقسموا على الخطأ كانت لهم الدية كاملة على العاقلة ويقتصون من جرح العمد .

                                                                                                                                                                                        إن كان مما فيه القصاص، وإن كان مما لا يقتص منه ، كانت فيه دية جناية. وقال ابن القاسم: إن مات مكانه قتل المتعمد، وكان على المخطئ نصف الدية، قال محمد: وذلك إذا لم يكن جرح الخطأ معروفا بعينه. قال ابن القاسم: فإن عاش بعد ضربهما ثم مات كانت فيه القسامة، فإذا كانت القسامة لم تكن إلا على واحد ويبرأ الآخر، فإن شاءوا أقسموا على صاحب العمد وقتلوه، ولا شيء لهم على الآخر، وإن أقسموا على صاحب الخطأ كانت لهم الدية كاملة على عاقلته، وبرئ صاحب العمد. قال محمد: إلا أنه يضرب مائة، ويسجن عاما . [ ص: 6503 ]

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: وقول ابن القاسم أحسن; لأنه لا يقتص من صاحب العمد، وإن كان الموت بالحضرة إلا بعد المعرفة بضربته، ويقسمون أنه لمات منها، لإمكان أن يكون مات من ضربة الخطأ، وإن لم يعرف العمد، أو عرف ولم يقسموا أنه مات منها، لم يقتص بالشك.

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم، فيمن كان يقود دابة وعليها متاع فسقط ذلك المتاع على إنسان فقتله: إن ضمان ذلك على العاقلة وقاله مالك، في حمال حمل عدلين على بعير وسار به، فانقطع الحبل، فسقط عدل منها على جارية فقتلها، والحمل لغيره، وهو أجير جمال: إن ضمان ذلك عليه، ولا شيء على صاحب البعير .

                                                                                                                                                                                        قال أشهب: وذلك إذا كان الذي يقوده هو الذي حمل المتاع عليه، ضمن، وإن كان غيره الذي حمله فذلك عليه على الذي حمله ، إلا أن يكون من قوده ما يطرح المتاع لخرقه ، فيكون ذلك عليه . [ ص: 6504 ]

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم، فيمن سقط عن دابته على إنسان فمات: كانت ديته على عاقلته .

                                                                                                                                                                                        قال محمد: وإن دفعه إنسان فوقع على آخر فمات، كان عقله على الدافع دون المدفوع، ولو رماه إنسان بشيء فحاد عنه فوقع على إنسان فمات، كانت دية الميت على الذي سقط عليه، وترجع عاقلته على الذي دفعه ، وإن ماتا جميعا كانت دية الأسفل على عاقلته، وترجع عاقلته على الأول .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية