الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5296 - وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : " عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل ، والنبي ومعه الرجلان ، والنبي ومعه الرهط ، والنبي وليس معه أحد ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فرجوت أن يكون أمتي . فقيل : هذا موسى في قومه ، ثم قيل لي : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق . فقال : هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا قدامهم يدخلون الجنة بغير حساب ، هم الذين لا يتطيرون ، ولا يسترقون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . قال : ( اللهم اجعله منهم ) . ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : " سبقك بها عكاشة ) . متفق عليه .

التالي السابق


5296 - ( وعنه ) أي : عن ابن عباس ( قال : خرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوما فقال : " عرضت علي " ) أي : أظهرت لدي ( " الأمم " ) أي : مع أنبيائهم ( " فجعل يمر النبي " ) : التعريف فيه للجنس ، وهو ما يعرفه كل أحد أنه ما هو ، فهو بمنزلة النكرات ذكره الطيبي - رحمه الله - ، فالمعنى أنه يمر نبي منهم عند العرض علي ( " ومعه الرجل " ) أي : الواحد من أتباعه ليس له تابع غيره ، ( والنبي ومعه الرجلان ، والنبي ومعه الرهط ) أي : الجماعة ، والمراد الرجال ( " والنبي وليس معه أحد " ) أي : لا من الرجال ولا من النساء ، والمراد [ ص: 3316 ] من النبي هنا الرسول - عليه الصلاة والسلام - المأمور بالتبليغ ، وقيد الرجولية واقعية غالبية أو قضية مثالية ، والمراد الوحدة والتثنية والجمعية ( " فرأيت " ) أي : من أمامي ( " سوادا كثيرا " ) أي : جمعا عظيما وفوجا جسيما ( " سد الأفق " ) أي : ستر طرف السماء بكثرته ( " فرجوت أن يكون " ) أي : السواد الكثير ( " أمتي فقيل : هذا موسى في قومه " ) أي : ممن آمن به ولم يتغير عن دينه ( " ثم قيل لي : انظر " ) : فكأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أطرق حينئذ وأعرض عن موضع العرض حياء ، فقيل له : انظر ترى رجالا ( " فرأيت " ) أي : من قدامي ( " سوادا كثيرا سد الأفق " ) أي : فقنعت بذلك وشكرت لما هنالك ( " فقيل لي " ) أي : بل لك الزيادة على ما ذكرت من الاستفادة ( " انظر هكذا وهكذا " ) أي : اليمين والشمال ( " فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق . فقيل " ) أي : لي ( " هؤلاء " ) أي : مجموع ما بين يديك وطرفيك ( " أمتك ، ومع هؤلاء " ) أي : من جملتهم أو زيادة عليهم ( " سبعون ألفا قدامهم " ) : وفيه منقبة عظيمة لهم كما في قوله : ( " يدخلون الجنة بغير حساب " ) : قال النووي - رحمه الله - : يحتمل هذا أن يكون معناه وسبعون ألفا من أمتك غير هؤلاء ، وأن يكون معناه في جملتهم سبعون ألفا ، ويؤيد هذا رواية البخاري : هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا ( " هم " ) : استئناف بيان أي : السبعون هم ( " الذين لا يتطيرون ، ولا يسترقون ، ولا يكتوون " ) أي : إلا عند الضرورة لما وقع الكي من بعض الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة ، أو مطلقا استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء ، مع علمهم بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله ، ولا تأثير بحسب الحقيقة لما سواه ، فهم في مرتبة الشهود خارجون عن دائرة الوجود فانون عن حظوظ أنفسهم باقون بحق الله في حراسة أنفاسهم كما قال : ( " وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة ) : بضم العين وتشديد الكاف وتخفف على ما في القاموس والمغني ( ابن محصن ) : بكسر ميم وفتح صاد . قال المؤلف : أسدي ، شهد بدرا وما بعدها ، وانكسر سيفه يوم بدر ، فأعطاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عرجونا أي : عودا فصار في يده سيفا ، وكان من فضلاء الصحابة ، مات في خلافة الصديق ، وله خمس وأربعون سنة . روى عن أبي هريرة وابن عباس وأخته أم قيس . ( " فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ) : ما أحسن هذا السؤال المشير إلى أنه من أصحاب الكمال ، بل من أرباب الوصال ، حيث علم أنه لم يصل إلى هذا المقال والحال إلا بوسيلة دعائه - صلى الله تعالى عليه وسلم - من ذي الجلال والجمال . ( قال : " اللهم اجعله منهم " ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ) : والظاهر أن الأول كان ناويا قاصدا للقيام بأفعالهم ، بل متصفا بأحوالهم ، وأن الثاني طلبه على وجه التمني من غير التعني ، وطريق التقليد في التحلي من غير قصد التجلي . ( قال : " سبقك بها " ) أي : بهذه الدعوة أو هذه المسألة ( " عكاشة " ) : وقد استجيب له ، والمعبر فيها هي الأولية كما ورد : إن الصبر عند الصدمة الأولى ، ولعل وجه الامتناع من الدعاء أن لا ينفتح هذا الباب المتفرع عليه الاكتفاء .

قال ابن الملك : لأنه لم يؤذن له في ذلك المجلس بالدعاء إلا لواحد ، وفيه حث على المسارعة إلى الخيرات وطلب دعاء الصالحين لأن في التأخير آفات . وقيل : كان الرجل منافقا فأجابه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بكلام محتمل ، ولم يصرح بأنك لست منهم لحسن خلقه ، انتهى . وقيل : قد يكون سبق عكاشة بوحي ولم يحصل ذلك للآخر . وقال القاضي عياض : قيل : إن الرجل الثاني لم يكن ممن يستحق تلك المنزلة ، ولا كان بصفة أهلها بخلاف عكاشة . وفي شرح الطيبي - رحمه الله - ، قال الشيخ : وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه قال في كتابه في الأسماء المبهمة : أنه يقال : إن هذا الرجل هو سعد بن عبادة ، فإن صح هذا بطل قول من زعم أنه منافق . ( متفق عليه ) .

[ ص: 3317 ]



الخدمات العلمية