الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3487 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة : عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها والعقل على عصبتها " . متفق عليه .

التالي السابق


3487 - ( وعن أبي هريرة قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي حكم ( في جنين امرأة ) : في القاموس : الجنين الولد في البدن والجمع أجنة ، ومنه قوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم الآية : ( من بني لحيان ) : بكسر لام وسكون حاء مهملة ، وجوز فتح أوله ، وهم بطن من هذيل ( سقط ) : أي وقع الجنين ( ميتا ) : حال مقيدة ، لأنه إن ألقته حيا فمات فيجب دية كاملة ، وإن ألقته ميتا فماتت الأم فدية وغرة ، وإن ماتت فألقته ميتا فدية فقط ، وسيأتي تفصيل المسألة في آخر الباب ( بغرة ) : بالتنوين وهو متعلق قضي ( عبد ) : بيان له . قال ابن الملك : وإذا رفع فخبر مبتدأ محذوف أي : هي عبد ( أو أمة ) : ( أو ) للتنويع ، وفي نسخة بإضافتها إلى عبد . قال النووي : الرواية في غرة بالتنوين وما بعده بدل منه ، ورواه بعضهم بالإضافة ، والأول أوجه و ( أو ) في قوله : أو أمة للتقسيم لا للشك وفي النهاية : الغرة العبد نفسه أو الأمة ، وأصل الغرة البياض الذي يكون في وجه الفرس ، وكان أبو عمر بن العلاء يقول : الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء ، فلا يقبل في الجنين عبد أسود ولا جارية سوداء ، وليس ذلك شرطا عند الفقهاء . قال ابن الملك : الغرة عند الفقهاء من العبد من يكون ثمنه نصف عشر الدية . وقال الزيلعي : الغرة الخيار وغرة المال خياره كالفرس والبعير والنجيب والعبد والأمة الفارهة ، والمراد به نصف عشر دية الرجل لو كان الجنين ذكرا ، وفي الأنثى عشر دية المرأة ، وكل منهما خمسمائة درهم وفي جنين الأمة لو ذكرا نصفه عشر قيمته لو كان حيا وعشر قيمته لو أنثى . وقال الشافعي : يجب فيه عشر قيمة الأم ، ثم القياس أن لا يجب في الجنين شيء لأنه لم يتيقن بحياته ، ووجه الاستحسان هذا الحديث : ويستوي في الجنين الذكر والأنثى ، لإطلاق الحديث . ولأنه قد لا يعرف الذكر من الأنثى ، فيقدر الكل بمقدار واحد تيسيرا . ( ثم إن المرأة التي قضي ) : بصيغة المفعول أي : حكم عليها : وفي نسخة بصيغة الفاعل أي : حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليها بالغرة توفيت ) : أي الجانية . قال ابن الملك : أي على عاقلتها ; لأن الغرة على عاقلتها بكل حال ، والمعنى أن المرأة الجانية على الجنين ماتت . ( فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها ) : أي تركة الجانية ( لبنيها وزوجها ، والعقل ) : بالنصب وفي نسخة بالرفع ولا معنى له أي : وقضى بأن دية الجنين ( على عصبتها ) : أي عاقلتها . قيل : دل الحديث على أن دية الخطأ على العصبة دون الأبناء والآباء لكن هذا إذا كانت القصة في الحديثين . أعني : هذا والآتي مختلفة متعددة لا متفقة متحدة عاقلتها .

وفي شرح السنة العقل هو الدية وسمي بذلك لأنه من العقل وهو الشد ، وذلك أن القاتل كان يأتي بالإبل فيعقلها في فناء المقتول ، وبه سميت العصبة التي تحمل العقل عاقلة . وقيل : سميت به عاقلة لأنه من المنع ، والعقل هو المنع ، وبه سمي العقل المركب في الإنسان لأنه يمنعه عما لا يحسن . قال النووي : واتفقوا على أن دية الجنين هي الغرة سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى ، وسواء كان كامل الخلقة أو ناقصها إذا تصور فيها خلقا آدميا ، وإنما كان كذلك ; لأن الجنين قد يخفى ، فيكثر فيه النزاع فضبطه الشرع بما يقطع النزاع ، ثم الغرة تكون لورثة الجنين جميعهم ، وهذا شخص يورث ولا يورث ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر وبعضه رقيق ، فإنه لا يرث عندنا ، ولكن يورث على الأصح ، هذا إذا انفصل الجنين ميتا فإن انفصل حيا ثم مات فيحب فيه كمال دية الكبير ، فإن كان ذكرا وجب مائة بعير ، وإن كان أنثى خمسون ، وسواء في العمد والخطأ ، ومتى وجبت الغرة وجبت على العاقلة لا على الجاني قال العلماء : قوله ثم إن المرأة إلخ قد يوهم خلاف مراده ، فالصواب أن المرأة التي ماتت هي المجني عليها أم الجنين لا الجانية ، وقد صرح به في حديث آخر يعني به الآتي ، فقتلتها وما في بطنها ، فيكون المراد بقوله : التي قضى عليها بالغرة أي التي قضى لها بالغرة ، فعبر بعليها عن لها ، والحرج فيه محمول على حجر صغير لا يقصد به القتل غالبا ، فيكون شبه عمد يجب فيه الدية على العاقلة وليس على الجاني قصاص ولا دية ، وهذا مذهب الشافعي والجماهير اهـ .

[ ص: 2280 ] وسيأتي بيان مذاهب غيره ، ومجمله أن الصغير والكبير عندنا سواء في الكبرى ضرب رجلا بصخرة فمات لا قصاص عليه ، قيل لأبي حنيفة : أرأيت إن كانت صخرة عظيمة ؟ فقال : وإن ضربه بجبل أبي قبيس ، وقيل : لفظ أبي حنيفة بجبل أبا قبيس لا يجب القصاص ، وهي مسألة القتل بالمثقل ، وهذا اللفظ مما أخذه بعض الجهال على أبي حنيفة في علم الإعراب ، فقال : الصواب بجبل أبي قبيس . قال القدوري رحمه الله : لم يثبت هذا عن أبي حنيفة ، ولم يوجد في كتابه ، فإن ثبت فهو لغة بعض العرب ; لأن بني الحارث بن كعب يقولون بها . وقال سيبويه : هذا هو القياس ، وقد جاء القرآن بذلك في قوله تعالى : إن هذان لساحران . وقال القائل :


إن أباها وأبا أباها قد بلغ في المجد غايتاها

ولأن اللفظ إذا تعارفه العام صح للمتكلم أن يتكلم به كذلك ، وإن كان فيه نوع خلل إذا كان قصده تفهيم العامة أنه أبلغ في تحصيل المقصود ، وقد فعل ذلك الإمام محمد في مواضع لا يظن به أن ذلك اشتبه عليه اهـ . ونظيره ما اشتهر أن عليا رضي الله عنه كتب اسمه علي بن أبو طالب والله أعلم بالمقاصد والمطالب . قال الطيبي : ونظير التعبير بعليها عن لها قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا أي لكم بتضمين معنى الرقيب ، فالمعنى فحفظ عليها حقها قاضيا لها بالغرة ، فعلى هذا الضمير في قوله يعني في الحديث الآتي . على عاقلتها للجانية ، وفي ورثتها للدية ، وفي ولدها للمجني عليها ، وجمع الضمير في معهم ليدل على أن الولد في معنى الجمع ومن معهم هو الزوج بدلالة قوله في الحديث السابق : بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، هذا إذا كان الحديثان في قضية واحدة وهو الظاهر وأما إذا كانت في قضيتين فالمعنى بقوله : قضى عليها هي الجانية ، فيكون ميراثها لبنيها وزوجها ، والدية على عصبتها اهـ . والأخير هو المختار عند أصحابنا من شراح الحديث والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية