الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
476 - وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه ، قال : ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن ابن أختي وجع ، فمسح رأسي ، ودعا بالبركة ، ثم توضأ ، فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة . متفق عليه .

التالي السابق


476 - ( وعن السائب بن يزيد ) : قيل : أزدي ، وقيل هذلي ، وقيل كندي ، ولد في السنة الثانية من الهجرة ، حضر مع أبيه حجة الوداع ، وهو ابن سبع سنين ، قاله الطيبي . ( قال : ذهبت بي خالتي ) : الباء للتعدية أي : أذهبتني ( إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابن أختي وجع ) : بكسر الجيم أي : مريض ، وقيل بفتحها أي : ذو وجع ( فمسح رأسي ) : أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الشمائل . قال ابن حجر : يحتمل أن الوجع كان برأسه ، فمسحه عليه الصلاة والسلام بيده المباركة ، ليكون ذلك سببا لشفائه ، فكان الأمر كذلك فبلغ السائب نحو المائة ولم يشب له شعر ولا سقط له سن . ( ودعا لي ) : وفي بعض نسخ الشمائل : بالفاء ( بالبركة ) : أي : النماء وزيادة الخير والنعماء ، ( ثم توضأ ، فشربت من وضوئه ) : بفتح الواو أي : ماء وضوئه . قال ملا حنفي في شرح الشمائل : يجوز أن يراد بالوضوء هنا فضل وضوئه ، يعني : الماء الذي بقي في الظرف بعد فراغه من الوضوء ، وأن يراد به ما انفصل من أعضاء وضوئه ، وهذا أنسب بما يقصده الشارب من التبرك ، وعلى هذا يكون دليلا على طهارة الماء المستعمل . وما المانع أن يحمله على التداوي أو على أنه من خواصه عليه الصلاة والسلام ، أو على أنه كان أولا ، والحكم بعدم طهارته كان بعده ؟ فتدبر . اهـ .

[ ص: 448 ] والفتوى على أن الماء المستعمل طاهر في مذهب أبي حنيفة . وقال ابن حجر : وقد يجاب بأن السائل من أعضائه - لشرفها - لا ينجس ، ومن ثم اختار كثيرون من أصحابنا طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم . ( ثم قمت خلف ظهره ) : أي : صلى الله عليه وسلم ( فنظرت إلى خاتم النبوة ) : بفتح التاء وكسرها ، وقيل : الخاتم بالفتح والكسر بمعنى الطابع الذي يختم به ، والظاهر أن المراد بالخاتم هنا هو الأثر الحاصل به لا الطابع ، وإضافته إلى النبوة إما لأنه ختم على النبوة لحفظها وحفظ ما فيها ؛ وللدلالة على تمامها ، أو استيثاقها ، وإما بمعنى أنه علامة لنبوته عليه الصلاة والسلام ( بين كتفيه ) : حال من الخاتم أو صفة له ، ويؤيده ما في بعض الروايات إلى الخاتم الذي بين كتفيه ، وهو بفتح الكاف وكسر التاء ، وقيل بكسر الأول وسكون الثاني . قال بعضهم : خاتم النبوة أثر كان بين كتفيه نعت به في الكتب المتقدمة ، وكان علامة يعلم بها أنه النبي الموعود المبشر به في تلك الكتب ، وصيانة لنبوته عن تطرق التكذيب والقدح ، كالشيء المستوثق عليه بالختم ، وقيل : سمي بذلك إشارة إلى ختم الرسالة والنبوة به فلا نبي بعده ، وعيسى عليه الصلاة والسلام لا ينزل بنبوة متجددة ، بل ينزل عاملا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ويقتدي ببعض أمته ، وقتله لأهل الذمة ، وعدم قبول الجزية منهم وهو من جملة شريعتنا ; لأن أخذها مغيا بنزوله لزوال شبهتهم حينئذ المجوزة لقبولها منهم . قيل : لا تتم تلك التسمية إلا لو كان الخاتم من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأما إذا ورد أن لكل نبي خاتما فلا يتم اهـ .

ويرد بأن من خصائصه : هذا الخاتم المخصوص في محله المخصوص الدال على تميزه عنهم ، فإن خواتيمهم كانت في أيمانهم كما رواه الحاكم ، عن وهب بن منبه ، وشتان ما بين بعدها من القلب وقرب خاتمه عليه الصلاة والسلام منه . وقوله : بين كتفيه أي : تقريبا ; حتى لا ينافي رواية مسلم أنه عند نغض كتفه الأيسر ، بنون مضمومة وتفتح فمعجمتين ، وهو أعلى الكتف ، أو العظم الرقيق الذي على طرفه ، أو ما يظهر منه عند التحرك أقوال . قال السهيلي : وكونه عند نغض كتفه الأيسر هو الصحيح ، وأشار بذلك إلى رد رواية : أنه كان عند كتفه الأيمن وحكمة الأولى أن ذلك المحل فوق القلب ، فبختمه لا يمكن تطرق شيء إلى القلب بوجه من الوجوه ( مثل ) : نصب بنزع الخافض أي : كمثل وقيل : بالرفع على أنه خبر محذوف هو هو ، ويؤيده ما في الشمائل : فإذا هو مثل ( زر الحجلة ) : قال ابن الملك : الزر بتقدم الزاي المكسورة على الراء المشددة واحد الأزرار التي تشد على ما يكون في حجلة العروس بالحاء والجيم ، وهي بفتحتين بيت كالقبة يستر بالثياب ، ويكون له أزرار كبار . قلت : وتسميه أهل مكة الآن الناموسية . قال ميرك : وهذا ما عليه الجمهور ، وقيل : بتقدم الراء المهملة على الزاي بمعنى البيض ، والحجلة : هي القبجة ، وهي طائر معروف ، كذا ذكره ابن الملك . وقال ميرك : وذكر الخطابي أنه روي بتقدم الراء على الزاي . وقال ملا حنفي : إن البخاري ذكر في الصحيح أن الصحيح الراء قبل الزاي . وقال التوربشتي : قيل المراد واحد الأزرار التي يشد بها في حجال العرائس من الحلل والستور . وهذا بعيد من طريق البلاغة ، قاصر في التشبيه والاستعارة ، ثم إنه لا يلائم الأحاديث المروية في خاتم النبوة . وقيل : المراد بيضة الحجلة ، وهي القبجة ، وهذا القول يوافق الأحاديث الواردة في هذا الباب غير أن الزر بمعنى البيض لم يوجد في كلام العرب ، وقيل : إنما هو رز بتقديم الراء على الزاي من : رززت الجرادة إذا أدخلت ذنبها في الأرض وألقت بيضها ، وهذا أشبه بما في الحديث إلا أن الرواية لم تساعده ، والذي ينصر القول الثاني ما رواه الترمذي في كتابه ، عن جابر بن سمرة : كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة . قيل : يكفي المشابهة في بعض الوجوه ، وهو أن يكون شيئا ناتئا من الجسد له نوع مشابهة بزر الحجلة ، كذا قاله الطيبي . ( متفق عليه ) .

قال ابن حجر : وفي روايات ما قد يخالف ما مر من كونه مثل زر الحجلة ، كرواية مسلم : جمعا عليه خيلان كأنها الثآليل السود ، وروايته أيضا كبيضة الحمامة ، ورواية صحيح الحاكم : شعر مجتمع ، والبيهقي : مثل السلعة ، والشمائل : بضعة ناشزة أي : مرتفعة ، وابن عساكر : مثل البندقة ، وصحيح الترمذي : كالتفاحة كأثر المحجم القابضة على اللحم ، وابن أبي خيثمة : شامة خضراء محتفرة في اللحم ، وله أيضا شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس ، والقضاعي : ثلاث شعرات مجتمعات ، والترمذي الحكيم : كبيضة [ ص: 449 ] حمام مكتوب في باطنها : الله وحده لا شريك له ، وفي ظاهرها : توجه حيث كنت فإنك منصور . وابن عائذ : كان نورا يتلألأ ، وابن أبي عاصم : كالنقطة التي أسفل منقار الحمامة ، وتاريخ نيسابور : مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم : محمد رسول الله . ليس هذا الاختلاف في مقداره حقيقيا ، بل كل شبه بما سنح له والكل مؤد ، والمراد واحد وهو قطعة لحم ، ومن قال : شعر ; فلأن الشعرات حوله متراكبة عليه شاخصة في جسده ، قريبة من بيضة الحمامة ، وفي رواية جمع الكف معناها أنه على هيئته ، لكنه أصغر منه ، ورواية : إنه كالمحجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء مكتوب عليه ما مر ، لم يثبت منها شيء ، وغلط ابن حبان في تصحيحه ذلك ، وكذا من ذكر الكتابة هنا ، فإنه اشتبه عليه ذلك بخاتم يده الذي كان يختم به اهـ .

وفيه أن الحمل عليه بعيد جدا ، والأقرب أن يقال : الكتابة كانت معنوية أو صورية لكنها كانت تدركها البصيرة النووية . ثم قال : وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم ، وكيف وضع ، ومن وضعه في حديث أبي ذر عند البزار وغيره ، قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف علمت أنك نبي ؟ وبم علمت حتى استيقنت ؟ قال : ( " أتاني آتيان " ) وفي رواية : ( " ملكان ، وأنا ببطحاء مكة ، فوقع أحدهما بالأرض ، وكان الآخر بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال : هو هو ، قال : فمر به رجل . الحديث ، وفيه : " ثم قال أحدهما لصاحبه : شق بطنه . فشق بطني ، فأخرج قلبي ، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما ، فقال أحدهما لصاحبه : اغسل بطنه غسل الإناء ، واغسل قلبه غسل الملاء - أي : الثوب الذي يتردى به - ثم قال أحدهما لصاحبه : خط بطنه . فخاط بطني ، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ، ووليا عني ، وكأني أرى الأمر معاينة " . وعند أحمد ، وصححه الحاكم : ( " استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين ، فقال أحدهما : ائتني بماء وثلج ، فغسلا به جوفي ، ثم قال ائتني : بماء وبرد ، فغسلا به قلبي ، ثم قال : ائتني بالسكينة ، فزادها في قلبي ، ثم قال أحدهما لصاحبه : خطه فخاطه ، وختم عليه بخاتم النبوة " ) . وبهذا يعلم أن القاضي عياضا لم يعلق في قوله : هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه عليه الصلاة والسلام ; لأن " بين " ظرف للخاتم لا للشق ، فالحاصل أن الخاتم بين الكتفين إجماعا ، وأن الشق لما وقع في صدره ثم خيط حتى التأم كما كان ، ووقع الخاتم بين كتفيه كان ذلك أثر الشق . وروى أبو نعيم : أنه ختم به عند ولادته ، وقيل : ولد به ولا منع من التعدد وزيادة أثر ما في كل مرة ، والله أعلم .




الخدمات العلمية