الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

477 - عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع فقال : ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " . رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، وابن ماجه . وفي أخرى لأبي داود : " فإنه لا ينجس " .

التالي السابق


الفصل الثاني

477 - ( عن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون ) : صفة أو حال ( في الفلاة ) : أي : في الصحراء ، أو المحل الواسع ( من الأرض وما ينوبه ) : عطف على الماء على سبيل البيان نحو : أعجبني زيد كرمه ، يقال : ناب المكان أو نابه إذا تردد إليه مرة بعد أخرى ( من الدواب والسباع ) : بيان لما قال الخطابي : فيه دليل على أن سؤر السباع نجس ، وإلا لا يكن لسؤالهم وجوابه بهذا الكلام معنى ; وذلك لأن المعتاد من السباع إذا وردت المياه أن تخوض فيها وتبول ، وربما لا تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها . ذكره الطيبي . والأول مذهبنا ، والثاني مذهب الشافعي . ( فقال ) عليه الصلاة والسلام : ( " إذا كان الماء قلتين " ) : قيل : القلة : الجرة الكبيرة التي تسع مائتين وخمسين رطلا بالبغدادي ، فالقلتان خمسمائة رطل ، وقيل : ستمائة . وقال ابن الملك : القلة معروفة بالحجاز . قلت : ولعلها كانت معروفة فيه . وقال القاضي : القلة التي يستسقى بها ; سميت بذلك ؛ لأن اليد تقلها . وقيل : القلة ما يستقله البعير ، كذا ذكره الطيبي . وفي رواية : أربعين قلة غربا أي : دلوا ، وهي وإن لم تصلح موقعة للشبهة ، ورواية : إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر مع عدم صحتها لا تخلو عن المجهولية ، وحمل بعضهم حديث القلتين على الجاري ، هذا وترك ظاهر الحديث في المتغير بنجاسة لوجود الإجماع ، أو لخبر : الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه أو لونه أو ريحه ، وقيل : الاستثناء فيه ضعيف اتفاقا . وقال الطحاوي من [ ص: 450 ] علمائنا : خبر القلتين صحيح ، وإسناده ثابت ، وإن تركناه ; لأنا لا نعلم ما القلتان ؛ ولأنه روى قلتين أو ثلاثا على الشك . وقال ابن الهمام : الحديث ضعيف ، وممن ضعفه الحافظ ابن عبد البر ، والقاضي إسماعيل بن إسحاق ، وأبو بكر بن العربي المالكيون . اهـ .

ولا يخفى أن الجرح مقدم على التعديل كما في النخبة ، فلا يدفعه تصحيح بعض المحدثين ممن ذكره ابن حجر وغيره ، وسئل ابن معين عنه قال : هو جيد ، وإن لم يحفظه ابن علية . قال ابن حجر : وما روي من أن زنجيا مات بزمزم فنزحها ابن عباس ، فإما ضعيف بل باطل كما بينه النووي ، وإما محمول على أن دمه غير ماءها ، أو نزحها استحبابا ؛ إذ المشهور عنه أن الماء قل أو كثر لا ينجس إلا بالتغير كما هو مذهب مالك ، واختاره جماعة من أصحابنا ، وفيه فسحة عظيمة للناس مخالف لمفهوم حديث القلتين المذكور كما علمت . قال المحقق ابن الهمام : وأما فتوى ابن عباس : فرواها الدارقطني ، عن ابن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم يعني مات ، فأمر به ابن عباس فأخرج ، وأمر بها أن تنزح ، قال : فغلبتهم عين جاءت من الركن قال : فأمر بها فسدت بالقباطي والمطارق حتى نزحوها ، فلما نزحوها انفجرت عليهم ، فهو مرسل ؛ لأن ابن سيرين لم ير ابن عباس . ورواها ابن أبي شيبة ، عن هشيم ، عن منصور ، عن عطاء ، وهو سند صحيح ، ورواها الطحاوي ، عن صالح بن عبد الرحمن ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا منصور ، عن عطاء : أن حبشيا وقع في زمزم فمات ، فأمر عبد الله بن الزبير فنزح ماؤها ، فجعل الماء لا ينقطع ، فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن سيرين : حسبكم . وهذا أيضا صحيح باعتراف الشيخ به في الإمام . وما نقل عن ابن عيينة : كنت أنا بمكة منذ سبع سنين لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي قالوا : إنه وقع في زمزم ، وقول الشافعي لا يعرف هذا عن ابن عباس ، وكيف يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( " الماء لا ينجسه شيء " ) ويتركه . وإن كان قد فعل فلنجاسة ظهرت على وجه الماء ، أو للتنظيف فدفع بأن عدم علمهما لا يصلح دليلا في دين الله تعالى ، ورواية ابن عباس ذلك كعلمك أنت به فكما قلت يتنجس ما دون القلتين لدليل آخر وقع عندك فلا تستبعد مثله من ابن عباس ، والظاهر من السوق ولفظ القائل : مات فأمر بنزحها أنه للموت لا لنجاسة أخرى على أن عندك أيضا لا تنزح للنجاسة ، ثم إنهما أي ابن عيينة والشافعي بينهما وبين ذلك الحديث قريب من مائة وخمسين سنة ، فكان إخبار من أدرك الواقعة وأثبتها أولى من عدم علم غيره ، وقول النووي : كيف يصل هذا الخبر إلى أهل الكوفة ، ويجهله أهل مكة ؟ استبعاد بعد وضوح الطريق ، ومعارض بقول الشافعي لأحمد : أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا ، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني ; حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا ، فهلا قال : كيف يصل هذا إلى أولئك ويجهله أهل الحرمين ؟ وهذا لأن الصحابة انتشرت في البلاد خصوصا العراق . قال العجلي في تاريخه : نزل الكوفة ألف وخمسمائة من الصحابة ، ونزل قرقيسا ستمائة ، وقرقيسا بالكسر ويقصر : بلد على الفرات على ما في القاموس .

( " لم يحمل الخبث " ) : قال القاضي : الحديث بمنطوقه يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس بملاقاة النجاسة ، فإن معنى لم يحمل يقبل النجاسة ، كما يقال : فلان لا يحمل ضيما إذا امتنع عن قبوله ، وذلك إذا لم يتغير فإن تغير نجس ، ويدل بمفهومه على أنه إن كان أقل ينجس بالملاقاة ، وهذا المفهوم يخصص حديث : " خلق الماء طهورا " عند من قال بالمفهوم ، ومن لم يقل به أجراه على عمومه كمالك ، فإن الماء قل أو كثر لا ينجس عنده إلا بالتغير ، وقيل :

لم يحمل يحتمل أنه لضعفه لم يحمله أو لقوته لم يقبله ، وبالرواية الثانية يترجح الثاني .

قلت : الترجح يتوقف على أن لا تكون الرواية بالمعنى ، وحمل الرواية الشاذة على المعنى أولى والله أعلم . ويحتمل [ ص: 451 ] أن يكون مدرجا من كلام أحد الرواة كما يدل عليه الفاء التعليلية ، فإن الحمل لما كان يحتمل أنه يكون من باب حمل الجسم كفلان لا يحمل الحجر ، أي : لا يطقه لثقله ، وأن يكون من باب حمل المعنى ; كفلان لا يحمل الغم ، أي : لا يقبله ولا يصبر عليه ، ومنه قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها أي : لم يقبلوا أحكامها ، علل الراوي بمقتضى رأيه وفهمه بقوله : فإنه لا ينجس ، لكن يبقى أنه حينئذ لم يبق لذكر القلتين فائدة ، قيل : ولا يكون الجواب كافيا شافيا . نعم لو قيل : معنى لم يحمل الخبث أنه يتغير صريحا ; لصلح أن يكون حجة للمالكية ، ويظهر لذكر القلتين فائدة أغلبية . ( رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، وابن ماجه ) .

( وفي أخرى لأبي داود : فإنه لا ينجس ) : بفتح الجيم ويجوز ضمها ، كذا في الأزهار ، وروي الحديث موقوفا على ابن عمر .




الخدمات العلمية