الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الأخبار التي جاءت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في هذا الباب

                                                                                                                                                                              6497 - حدثنا محمد بن علي ، قال: حدثنا سعيد بن منصور ، قال: حدثنا سفيان وإسماعيل بن زكريا وأبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال: أكثر الناس على عبد الله ذات يوم فقال: إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله قد بلغنا من الأمر ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس فيه كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه، فإن جاءه أمر ليس فيه كتاب الله ولم يقض به نبيه، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس فيه كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون، فليجتهد برأيه، ولا يقول: إني أرى، وإني أخاف. فإن الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك . [ ص: 537 ]

                                                                                                                                                                              6498 - وحدثنا محمد بن علي ، قال: حدثنا سعيد ، قال: حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا (يثنيك) الرجال عنه، فإن لم يكن في كتاب الله [فبما في سنة رسول الله فاقض] ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله فاقض بما قضى به أئمة الهدى، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا فيما قضى به أئمة الهدى فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك .

                                                                                                                                                                              6499 - حدثنا محمد بن علي ، قال: حدثنا سعيد ، قال: حدثنا سفيان ، قال: حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال: شهدت ابن عباس إذا سئل عن شيء فكان في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله [و] حدث به عن رسول الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حدث به عن رسول الله، ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر اجتهد وقال برأيه . [ ص: 538 ]

                                                                                                                                                                              6500 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، قال: قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن عمر بن الخطاب قال: يا أيها الناس، إنا لا ندري لعلنا نأتيكم بأشياء لا تصلح لكم، وننهاكم عن أشياء تصلح لكم، وإن آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم [مات] قبل أن يبينها لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .

                                                                                                                                                                              6501 - حدثنا أبو بكر ، قال: حدثنا بندار ، قال: حدثنا عبد الرحمن ، قال: حدثنا سفيان ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: إنا ننهاكم عن أشياء لعله لا يكون به بأس، ونأمركم بالشيء لعله أن يكون مكروها .

                                                                                                                                                                              6502 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا شعبة ، عن محمد بن عبيد الله ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، قال: حدثني رجال من أصحاب معاذ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث [ معاذا ] إلى اليمن قال: "كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟" قال: ففي سنة رسول الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله؟" قال: أجتهد رأيي. قال: "الحمد لله الذي وفق رسول [رسول] الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسوله" . [ ص: 539 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : على القاضي أن يقضي بكتاب الله، فإن لم يكن ما ينازع فيه الخصمان في كتاب الله، قضى بما في سنة رسول الله، فإن لم يجد ذلك في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، قضى بإجماع إن وجد السبيل إليه، وإن لم يكن إجماعا اجتهد رأيه استدلالا بالأخبار التي رويناها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن من ذكرنا من الصحابة .

                                                                                                                                                                              وقد اختلفوا في كيفية الاجتهاد، فكان الشافعي يقول: [ليس] لي ولا لعالم أن يقول في إباحة شيء ولا حظره ولا أخذ [شيء] من أحد ولا [إعطائه] منه إلا أن يجد ذلك نصا في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو خبر يلزم، ولا يجوز أن نقوله بما استحسنا وبما خطر على قلوبنا، ولا نقوله إلا قياسا على اجتهاد به على طلب الأخبار اللازمة. وذكر حديث عمرو بن العاص "إذا اجتهد الحاكم.." وقد ذكرناه فيما مضى. والقياس قياسان: أحدهما يكون في معنى الأصل، فذلك الذي لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من [ ص: 540 ] الأصل [والشيء من الأصل] غيره، فيشبه هذا بهذا الأصل، ويشبه غيره بالأصل، [إن أشبهه] أحدهما في خصلتين، والآخر في خصلة ألحقته بالذي هو أشبه به في خصلتين، وليس للحاكم أن يولي الحكم أحدا، ولا لمولى الحكم أن يقبله، ولا للوالي أن يدع أحدا يفتي، ولا ينبغي للمفتي أن يفتي أحدا حتى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب وعلم ناسخه ومنسوخه، وخاصه وعامه، وفرضه وأدبه، وعالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا، وعالما بلسان العرب، عاقلا يميز بين المشتبه، ويعقل القياس، فإن عدم واحدا من هذه الخصال لم يحل له أن يقول قياسا .

                                                                                                                                                                              وكان أبو عبيد يقول بعد ذكره خبر معاذ وابن مسعود : أصول الأحكام التي ليس لقاض أن يتعداها إلى غيرها ثلاث: الكتاب والسنة وما حكمت به الأئمة والصالحون بالإجماع، والاجتهاد ليس بوجه رابع، وإنما الاجتهاد عندنا هو الاختيار من هذه المذاهب إذا اختلفت وتضادت، بحسن التدبر والتوقي لأقربها إلى الرشد والصواب، فإن عرض من الحكم ما ليس بموجود بعينه في هذه الخصال كان للحاكم التشبيه بها والتمثيل عليها، وليس له مفارقتها كلها. وقال أصحاب الرأي في القول بالكتاب والسنة كقول الشافعي وأبي عبيد، قالوا: فإن لم يجد [ ص: 541 ] فيما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر فيما أتاه الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان شيئا قد اختلفوا فيه تخير بين أقاويلهم، واجتهد أحسنها في نفسه، وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه، فإن لم يكن القضاء في شيء من ذلك اجتهد رأيه، وقاس بما جاء عنهم، وإن أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه، وإن اختلفوا نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به. وقال بعض من يميل إلى قولهم، كما قالوا، ثم قال: فإذا أشكل عليه شيء فشاور في ذلك رجلا واحدا فقيها فهو في سعة أن يأخذ بقوله إذا لم يكن للقاضي في ذلك رأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قول الشافعي في ذلك حسن ولم يختلف قوله أن الذي يجب أن يقال به: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس إذا كانت النازلة فرعا على أحد هذه الأصول على سبيل ما ذكرنا عنه. وإنما اختلف قوله في القول بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في اختلافه ومالك : أقول ما كان الكتاب والسنة [موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما] فإذا لم يكن ذلك، صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدهم، ثم كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا، لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس و (من لزمه) قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر، فإذا لم يوجد عن الأئمة، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين في موضع إمامة أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم، والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت . [ ص: 542 ]

                                                                                                                                                                              والثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم له مخالفا منهم. (والرابع) : اختلاف [أصحاب] رسول الله صلى الله عليه وسلم. والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى .

                                                                                                                                                                              وقال في كتاب أدب القاضي: وإنما أمرته بالمشورة، لأن المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما لعله أن يجهله، فأما أن يقلد مشيرا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية