الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الخبر الدال على أن حكم الحاكم لا يحرم حلالا ولا يحل حراما وإن كان الذي حكم له ألحن بحجته في الظاهر من صاحبه

                                                                                                                                                                              6506 - أخبرنا الربيع ، قال: أخبرنا الشافعي ، قال: أخبرنا مالك ، عن هشام بن عروة ، وأخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون هو ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" .

                                                                                                                                                                              وحدثني علي ، عن أبي عبيد قال في قوله: "لعل بعضكم أن يكون [ألحن] بحجته من بعض": يعني أفطن بها وأجدل، واللحن: الفطنة [ ص: 546 ] بالفتح، ويقال منه: رجل لحن إذا كان فطنا .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وفي الحديث دلالة على أن الأئمة إنما كلفوا القضاء على الظاهر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه"، فأخبر أنه قد يكون خلافه في الباطن، فحرمه على من قضى له به، وأباح القضاء على الظاهر، ودلالة على أن قضاء الإمام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا لقوله "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه"، ودلالة على أن كل حق وجب [لي] ببينة أو قضاء قاض فأقررت بخلافه أن قولي أولى لقوله "فمن قضيت له" في الظاهر فلا يأخذه إذا كان في الباطن ليس له، ودلالة على أن الحكم بين الناس على نحو ما يسمع منهم مما لفظوا به، وإن كان قد يمكن أن يكون نياتهم أو غيبهم غير ذلك لقوله: "فمن قضيت له فلا يأخذ"، إذ القضاء عليه إنما هو بما لفظوا [به] لا بما غاب عنه، وقد وكلهم فيما غاب عنه منهم بنية أو قول إلى أنفسهم، ودلالة على أنه لا يحل لحاكم أن يحكم على أحد إلا بما لفظ، وأن لا يقضي عليه بشيء غير ما لفظ به لقول النبي صلى الله عليه وسلم "على نحو مما أسمع منه" فمن قضى بتوهم منه على سائله أو بشيء يظن أنه (حلف) به أو بغير ما سمع من السائلين فبخلاف كتاب الله وسنة نبيه، لأن الله قد استأثر بعلم الغيب، وادعى هذا (عليه) ، ومثل هذا قضاؤه لعبد بالولد، وقوله لسودة "احتجبي منه" عندما رأى شبها بينا فقضى بالظاهر وهو فراش زمعة، [ ص: 547 ] ودلالة على أنه ما أخذ من مال مسلم شيئا فإنما يقطع لنفسه قطعة من نار.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أشياء مما يحكم به الحاكم في الظاهر على أن لا حق للمقضي له ما قضى له مما يعلم أن ذلك حرام عليه .

                                                                                                                                                                              من ذلك الرجل يدعي على الرجل المال المعلوم ويقيم في الظاهر بينة فيحكم له بالمال في الظاهر، كل من نحفظ عنه يقول: إن ذلك لا يحل للمقضي له وحكم الحاكم لا يحل له ما حرمه الله عليه .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك أن يدعي المدعي رجلا حرا أنه مملوكه، ويشهد شاهدان له في الظاهر أن حراما عليه أن يسترق آخر فيجعله مملوكا بحكم الحاكم .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك لو شهدت بينة أن فلانا قتل وليا لفلان، فحكم للولي [في] الظاهر بالدم أن حراما عليه أن يقتل المدعى عليه لا أعلمهم يختلفون فيه .

                                                                                                                                                                              ثم تفرد النعمان من بينهم فزعم: أن المرأة إذا ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثا فاستأجرت شاهدي زور شهدا لها بدعواها فحكم الحاكم بالفرقة، والمرأة تعلم أنه لم يطلقها والشاهدان يعلمان ذلك أنها قد حرمت على زوجها وحل لها أن تزوج إذا انقضت عدتها، وللشاهدين أن يتزوجها أيهما شاءت، وقال: فرقة الحاكم فرقة تحرم ما كان حلالا في الحقيقة، وإن كانت الشهادة زورا. وخالفه أصحابه فقالوا: لا يحل لأحد الشاهدين أن يتزوجها . [ ص: 548 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ومما حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين الخصمين على الظاهر وقد علم أن أحدهما كاذب - المتلاعنين - قال بعد ذكر اللعان: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : القاضي لا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل الله، لو أن رجلا مات ابن ابنه، وخلف أخاه لأبيه وأمه، وخلف مالا، وقدمه على قاض يقول بقول أبي بكر الصديق، والجد يرى رأي زيد بن ثابت لم يسعه إلا أن يشارك الأخ في المال فلا يبيح له القاضي ما يعلم هو علم نفسه أنه حرام عليه .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية