الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              [باب من يجوز له أن] يقضي القاضي [له] من الناس ومن لا يجوز قضاؤه له

                                                                                                                                                                              قال الله - جل ذكره - : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) وأمر الحكام بذلك فقال: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) . فكان اللازم على ظاهر هذه الآية أن يحكم الحاكم بين [ ص: 560 ] جميع من تقدم إليه بالعدل، لأن الله - جل ذكره - أمر به، وأمره على العموم، فكل خصمين تقدما إلى حاكم من حكام المسلمين فعليه أن يحكم بينهما، وسواء كان أحد الخصمين والدا للحاكم أو ولدا له أو أخا أو أختا أو عما أو عمة أو زوجة هم وسائر الناس في ذلك شيء واحد .

                                                                                                                                                                              وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر". ولو كان له مراد لبين فقال: وإذا حكم لغير أبيه أو أمه. هذا الذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان: وهو أن ليس للحاكم أن يحكم لولده، ولا لوالده، ولا لمن لا تجوز شهادته له، ويجوز قضاؤه لكل من جازت شهادته له من أخ وعم وابن عم ومولى. هذا قول الشافعي .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث: وهو أن قضاء القاضي لا يجوز لولده ولا لولد ولده من قبل الرجال والنساء، ولا لأبيه، ولا لأمه، ولا لجدته، ولا لجده من قبل الرجال والنساء، ولا لزوجته، ولا لعبد له، ولا لمكاتب، ولا لأم ولده، ألا ترى أن شهادته [لهم] لا تجوز، فكذلك قضاؤه لهم، وقضاؤه لأخيه وعمه وخاله وابن أخيه ولأخته ولكل ذي رحم محرم من الرضاعة كان أو النسب بعد الذي سميناه فهو جائز. هذا قول أصحاب الرأي . [ ص: 561 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فقول أصحاب الرأي هذا مخالف ظاهر الكتاب والسنة، ثم هو قياسا على ما قد خولفوا فيه، وإذا اختلف أهل العلم في الشيء فليس بأصل يجوز القياس عليه، ولو كان ما قاسوه عليه أصلا يجوز القياس عليه لم يجز أن يجعل باب القضاء قياسا على باب الشهادات للفرق البين بينهما على ألسنتهم، وعلى مذاهب غيرهم، فأما مخالفته الكتاب فخروج قائله من ظاهر الآيات اللواتي تلوناها في أول هذا الباب إلى غير حجة يعتمد عليها المخالف، وأما مخالفته السنة فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بنت الصديق وهي زوجته على الذين قذفوها وضربه إياهم الحد .

                                                                                                                                                                              6514 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال: حدثنا أحمد بن محمد ، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، قال: حدثنا الزهري ، عن علقمة بن وقاص وعن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عبد الله ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث .

                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه، عن عائشة .

                                                                                                                                                                              وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة ، عن عائشة ، وكل قد اجتمع حديثهم في قصة خبر عائشة قال: قال أهل الإفك فيها ما قالوا.. ثم ساق الحديث، قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، فأما حمنة فإنها أشاعت تعادني لأختها، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم ثم تلا عليهم ما أنزل الله من القرآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن [ ص: 562 ] أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم .

                                                                                                                                                                              6515 - وحدثنا موسى بن هارون ، قال: ثنا عثمان بن طالوت ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - وقال ابن المثنى: صعد النبي على المنبر - فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم .

                                                                                                                                                                              وأما ما قاسوه على ما قد خالفوا فيه فإنهم شبهوا ذلك وقاسوه على أبواب الشهادات، قالوا: فكما لا تجوز شهادة [الوالد] لولده، والولد لوالده، والزوج لزوجته، فكذلك لا يجوز أن يحكم الحاكم لولده ولوالده ولزوجته. وأول ما يبدأ في ذلك أن يقال لهم: لو اتبعتم ظاهر كتاب الله فقبلتم شهادة هؤلاء الذين دل ظاهر الكتاب على وجوب قبول شهادة من كان من هؤلاء رضى كان أولى بكم من أن تخالفوا ظاهر آية ثم تقيسوا على ما خالفتم من ذلك، فاتباع ظاهر الكتاب وقبول شهادة من ردوا شهادته ألزم لهم وأولى بهم من أن يخالفوا ظاهر آية ثم يقيسوا على ما قد خالفوا فيه ظاهر الآية، فإن ظن [ ص: 563 ] ظان أن في رد شهادة الولد لوالده والوالد لولده إجماعا فقد أخطأ، لأنا روينا إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقال الزهري في شهادة الوالد لولده: قد كان فيما مضى من السنة وسلف المسلمين يتأولون في ذلك قول الله ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) فلم يكن يتهم في سلف المسلمين والد لولده ولا ولد لوالده .

                                                                                                                                                                              وروينا عن إياس بن معاوية : أنه أجاز شهادة رجل لابنه. وهذا قول أبي ثور والمزني ، وقد ذكرت هذه المسألة بتمامها في كتاب الشهادات .

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل: إنما رددنا شهادة الولد لوالده والوالد لولده للتهمة في ذلك. قيل له: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظن وقال: "إنه أكذب الحديث" فتركك ما نهاك عنه رسول الله، ورجوعك إلى الحق أولى بك من مخالفتك السنة، ثم تبني على ما خالفت عليه منها المسائل . [ ص: 564 ]

                                                                                                                                                                              6516 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن سفيان الثوري ، عن ابن ذكوان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن أكذب الكذب الظن" .

                                                                                                                                                                              ويقال لمن خالفنا: أرأيت لو قدم عبد الرحمن بن أبي بكر إلى أبي بكر - وهو خليفة - رجلا يدعي عليه مالا أكان يجوز لأبي بكر الحكم له، أو رأيت لو أن ابن عمر تقدم إلى أبيه - وهو خليفة - فادعى على رجل مالا، أو فعل بعض ولد عثمان أو بعض ولد علي ، فإن منع من ذلك فقد فعل أمرا عظيما، لأن التهمة تبعد منهم، وإن جاز لهم أن يحكموا لأولادهم لزمهم ذلك في سائر القضاة، ويقال لبعض من مذهبه أن [ ص: 565 ] الحاكم لا يحكم لولده ولا لوالده ما يقول في والد الخليفة أو ولد له طالب بحق له عند الخليفة، وجاء على ذلك بالبينة أيحكم له بحقه أم لا يحكم له؟ فإن قال: يحكم له. قيل له: فيجوز أن تعطل أحكام الله وتمنع هؤلاء من بين الخلق الحق؟ فإن قال: يجعل الخليفة النظر بينهما إلى بعض الناس لينظر بين والده أو ولده وخصمه. قيل: أليس من قولك أن وكيل الرجل يقوم مقامه فما جاز له أن يفعله فعله وكيله وما منع هو منه فوكيله ممنوع منه. وحكاية هذا القول تغني عن الإدخال على قائله .

                                                                                                                                                                              6517 - وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه أمر بقطع رجل رجل سرق حليا لأسماء بنت أبي بكر من حديث مكي بن إبراهيم ، عن حنظلة بن أبي سفيان ، عن نافع .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية