الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
تمهيد

الواقع الذي تعيشه الأمة واقع لا تحسد عليه، فعلى كل الأصعدة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية التربوية، العسكرية، والنفسية، يجد المرء ترديا في الأوضاع، وانتكاسا، ليس بعده انتكاس. وواقع مثل هـذا الواقع، يكون نقطة جذب وتساؤل، حول الأسباب والعوامل التي أدت بالأمة إلى هـذا الواقع المؤلم، والوضع السيء. فهل يا ترى يعود هـذا الضعف إلى خلل أساسي في تكوين الأمة ومكوناتها، أم أنه عرض سيزول مع الوقت، وبزوال الأسباب؟!.. إن من التساؤلات حول هـذا الوضع، ما يقتضي الوقوف على الفرد المسلم، ومحاولة تشخيصه بكامل مكوناته، فقد يكون الخلل واقع به، وما تعانيه الأمة يعود في الأساس إليه، فهو سبب المشكلة ومصدرها. ولا شك أن في هـذا الطرح إشكالية كبيرة، ومجالا للنقاش، فقد يقول قائل: إن الفرد ما هـو إلا نتاج الأمة: فلو أن الأمة سليمة، وخالية من العيوب، لما كان هـذا الفرد بهذه الصورة، وعلى هـذه الحال من التردي. فالفرد بهذه الحال، مثل البذرة التي تضعها في داخل الأرض، فإن كانت هـذه الأرض سبخة ومجدبة، فلن تنبت هـذه البذرة، ولو قدر لها ونبتت، فلن تكون بحال جيدة، ولا بصورة طيبة، فهذه البيئة التي وضعت فيها هـذه البذرة، بيئة لا تشجع على النماء، بل إنها ربما تهلك عناصر النماء الكامنة، وتدمرها عن بكرة أبيها، أو بما تشل صاحبها عن الحركة والنشاط والفاعلية، وتجعل صاحبها كمن هـو في عداد الأموات.

ولو قدر لنا وقبلنا مثل الطرح، لأعطينا الفرد عذرا في تراخيه وكسله، [ ص: 27 ] وأوجدنا حسـا مفعما بالإحباط والتثبيط، لأن الفرد سيتعلل بأن عناصر القوة غير موجودة في محيطه، وإن وجدت فهي ضعيفة، وعليه فهو لا يستطيع مواجهة التيار، حتى وإن وجد لديه الإحساس والطموح، وعناصر القوة الذاتية.

أما الطرح الآخر فهو يرى أن أساس المشكلة ولبها، يكمن في الفرد ذاته، فالأمة ما هـي إلا جمع من الأفراد، فإن كان هـذا الجمع صالحا في ذاته، فاعلا ونشطا في محيطه، كانت الأمة على حال طيبة، وبصورة جيدة. أما إن كان هـذا الجمع من الأفراد معتلا في ذاته، متراخيا في عمله، فهذا بلا شك سينعكس على واقع أمته أيضا.

إن تصور الإسلام للأمة قائم في الأساس على إدراك دور الفرد، وفاعليته، فلا يمكن أن تكون أمة بدون فرد أو أفراد. ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) ( النحل : 120) ،

( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( البقرة 143)

( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ،

إن فاعلية الأمة، لا يمكن أن تتحقق، إلا من خلال فاعلية أفرادها، ففاعلية الأفراد شرط أساسي في إحداث فاعلية الأمة، لأن الأمة ليست كائنا بذاتها، وإنما هـي رمز لجمع، من الأفراد ولذا نجد القرآن يوجه في الأساس الأفراد للعمل والنشاط والحيوية ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك : 15) .

إن التداخل بين مفهوم الأمة والفرد، أو الأفراد، ليس تداخلا نظريا فحسب، بل هـو تداخل عملي في الأساس، فالفرد لا يمكن أن يتجرد [ ص: 28 ] من مسؤوليته في بناء الأمة، والمساهمة في إصلاح وضعها، فدوره أساسي ومطلب جوهري، لكي تقوم الأمة بدورها في هـذا الكون، وتضطلع بمسئوليتها، إلا أنه في الوقت نفسه، لا يمكن إرجاع الإخفاق كله للفرد، ولومه عليه، فالفرد ككائن، يتأثر، بما حوله، ويتطبع بطبائع محيطة إلا ما ندر. إن ما يسود داخل المجتمع من عادات، وتقاليد، وأنشطة، سواء كانت ذات طابع سلبي، أو إيجابي، تنعكس بدورها على الفرد، وتؤثر على سلوكه، ونظرته، وتفاعله في محيطه، ومع من هـم حوله.

وعليه يمكن القول: إن الفرد نتاج بيئته. إن الأمة بقيمها ومبادئها وبأهدافها واقع، وقدر، يجب أن يلعب دوره المعهود والمطلوب في هـذا الكون، كما أن الفرد بقدراته، واستعداداته، واستلهامه لما هـو حوله، عنصر أساسي في معادلة البناء، التي يتطلع إليها البشر، وعليه لا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال، بين الواقع الاجتماعي، وواقع الفرد. ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه ) ( كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فليحم كل منكم ثغره ) نظرة متقدمة، وتلاحم لا مثيل له بين الفرد ومجتمعه. فما يسود في المجتمع، يتجسد في ذات الفرد وينعكس على سلوكه ومشاعره، وتصرفاته، وفي نفس الحين، إن دور الفرد وفاعليته في مجتمعه مطلب أساسي وجوهري، فأهميته تتمثل في أنه على ثغر، أو على جهة من جهات الأمة، وعليه حماية ذلك الثغر، أو تلك الجهة، من أي أعتداء، أو خدش، قد تتعرض له، من أي كائن كان، من الداخل أو الخارج، ولكن أني له ذلك، إذا لم يكن جاهزا ومجهزا نفسيا وبدنيا وعقليا. [ ص: 29 ] ومهاراتيا وعسكريا، وكل أمر من أمور حياته. إن الفرد بما يحمله من مشاعر، وما يتمتع به من قدرات، وما يجيده من مهارات لغوية، ورياضية، وعسكرية، وحرفية.. إلخ هـو في نهاية المطاف الشعلة الحقيقية والطاقة المحركة للمجتمع، في كل أصعدته، وفي كل جوانب الحياة فيه. إن عناية الأمم بأفرادها، يجب أن تنطلق في الأساس من أهمية الفرد بذاته، ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ( الإسراء: 70 ) .

ثم إن هـذه العناية ستكون آثارها واضحة، على صعيد المجتمع، في كل مرافق الحياة الصناعية والزراعية والأمنية.. إلخ.

إن قوة الأمم، ونشاطها، وحيويتها، تقاس بما لها من تأثير على مجريات الأمور العالمية، وقدرتها على توجيه أحداث العالم، بما يتناسب مع منطلقات، ومعطيات، ومصالح الأمة، التي يراد الحكم على واقعها. وقد يزداد الأمر غموضا والتباسا، حينما تكون الأمة المراد الحكم على واقعها أمة ريادة وسيادة في الأساس، ولكنها لبعض الظروف، فقدت مثل هـذه السيادة والريادة. وقد يزيد الأمر غموضا أيضا، حينما نعلم أن هـذه الأمة فقدت توجيه ذاتها، بل والأدهى والأمر أنها أصبحت توجه من قبل الآخرين، بل وربما تقمصت في بعض المجالات، وفي بعض الأحيان، شخصية غيرها من الأمم. مثل هـذه الإشكالات التي نعرض لها في واقع بعض الأمم تستدعي، بل تستوجب طرح السؤال تلو السؤال عن دور الفرد على صعيد قضايا أمته، في نشاطه وحيويته، وهمته وفعاليته، وأخيرا عطائه. وإذا علمنا [ ص: 30 ] أن الفرد ليس سلوكا، وشعورا وعاطفة، ومعرفة، فحسب، بل هـو مجموع هـذه العناصر، يضاف لها عنصر مهم أيضا ألا وهو الجانب الاعتقادي، والذي يهيمن على كل هـذه الأشياء، مع غيرها مما يمكن تصوره في النفس الإنسانية.

وحيث إن العقل يمثل حجرا أساسا بالنسبة للإنسان، إذ أنه يمثل منطلق التكليف، وعلى ضوء سلامته، أو سقمه، يكون التكليف أو لا يكون، لذا فإن دراسة العقل الإنساني مهمة شاقة، وصعبة، وتستوجب الأخذ في الاعتبار لمجموعة من الأمور، والعناصر، والاعتبارات، الداخلة في تكوين العقل، وصياغة ماهيته، فالعقيدة والثقافة والعادات والتقاليد، والنظام السياسي، والواقع الاجتماعي، والحالة المعيشية، والخرافات السائدة في المجتمع، وغيرها، كلها أمور لها أهميتها في تشكيل العقل، وتحديد مكونات وبلورة وطريقة تقويمه للأشياء، والمتغيرات من حوله.

وإذا كانت دراسة هـذه الأشياء واجبة، عند دراسة العقل البشري، بشكل عام، فهي صحيحة عند دراسة وتحليل العقل العربي أيضا، وقد يكون من الأمور الخاصة بالعقل العربي، ما يستوجب التوقف والتأمل الطويل، نظرا لخصوصيتها، ونقاء انتمائها للعقل العربي.

قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: ما الأسباب والدواعي للبحث في موضوع العقل العربي؟ وللإجابة على مثل هـذا السؤال، يلزم الإحالة للواقع، فحالة التشرذم، والتشتت، التي يحياها العالم العربي، من تعدد الأنظمة واصطناع الحدود، بين أقاليم العالم العربي، إلى جانب [ ص: 31 ] فقر وجهل الشعوب العربية، رغم تعدد وثراء المصادر الطبيعية، والتقوقع على الذات، وضياع الهوية وافتقاد الدور الريادي، على الصعيد العالمي، هـذه كلها تحليل شواهد واقعية، تستوجب التأمل، والتبصر، في واقع العقل العربي لأنه هـو الأحرى أن يلام على ما أصاب الأمة، وعليه يكون تحليل هـذا العقل، ومعرفة إيجابياته وسلبياته، وكوامن القوة والضعف، منطلقا سليما، ومدخلا طبيعيا، لأي محاولة من شأنها استعادة هـذا العقل لرشده ووعيه، ومن ثم الانطلاق نحو مستقبل مشرق.

إن دراسة وتحليلا من هـذا النوع، تستوجب وقوفا على الماضي، وكذا الحاضر، كما تستوجب النظر بشمولية، لكل ما يمكن اعتباره عوامل داخلية، في تكوين العقل بالإضافة إلى استخلاص ما تؤدي إليه كل هـذه المعطيات، من نمط أو طريقة في التفكير، على أمل، أن يكون في هـذا العمل جهدا تشخيصيا، يسهم كغيره من الأعمال، في مجال إعطاء صورة عن واقع العقل العربي، الذي نحن بصدد دراسته وتحليله. ولقد تمت الاستفادة الجزئية، عند صياغة عنوان هـذا الكتاب، من الدكتور عماد الدين خليل في كتابه: حول إعادة تشكيل العقل المسلم. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية