الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- مقصد الحسن والجمال:

أ- الحسن:

الحسن يأتي بمعنى الجميل، كما يأتي بمعنى الجيد النافع، وهو ضد القبح ونقيضه [1] . والمرأة حسناء، ولذلك يصف الله تعالى جمالها بالحسن، سواء المادي كما في قوله: ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا ) (الأحزاب:52)، في إشارة إلى جمال المرأة، الذي جبلت عليه، المرتبط بأنوثتها، أو المعنوي المتعلق بجمالها المعنوي المرتبط في التصور الإسلامي بالإحسان في العبادة كما في قوله تعالى: ( وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) (الأحزاب:29).

وقد تعـدد ذكر هذه اللفظة في القرآن الكريم بمـا يفيد أنـها ترتبط بمفهوم الجمال الموجود في الكون، فعلى امتداد الآيات الكريمة، التي تضمنت لفظة "الحسن"، يجدـ المتلقي نفسـه أمام مجموعة من العلاقات، تبين بجلاء ملامح الجمال والحسن، ابتداء بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما، مرورا بالإحسان إلى النفس وإلى الآخر مهما كان، والدفع بالتي هي أحسن في كل المواقف والحالات [ ص: 70 ]

كما تكررت صفات الحسن في القول والقرض والموعظة والأسوة والجدال وغيرها من الأفعال، التي تتجمل بالحسن. يقول تعالى: ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) (النساء:69)، فالصحبة الموصوفة بالحسن تفيد قمة الجمال في العلاقات الإنسانية، كما تفيد قمة الإحسان والرفقة الطيبة، يقول تعالى: ( وقولوا للناس حسنا ) (البقرة:83)، ليس مع الآخر فقط، وإنما مع النفس أيضا، يقول تعالى: ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) (الزمر:18).

فمثل هذه الأمثلة القرآنية، منظومة من المواقف والصور والمشاهد والتطبيقات، التي يسكنها الجمال من كل ناحية، تزداد مع القص القرآني تألقا، وتأخـذ بالألباب كلما تطـور التصـوير وتنـوعت المشـاهد، طبيعيـة كانت أم إنسـانـيـة. فحسـن العرض والسـرد والدلالة من أسرار القصص القرآني، لعل ذلك راجع إلى بنيته اللغوية والفنية، أو إلى اشتماله على التناسق والتناسب مع ما سبقه وما لحقه من السور الكريمة، والتناسق بين فاتحته وخاتمته، فضلا عن التناسق والتناسب مع السياق الخارجي، الذي نزل في ظلاله، والتناسق الإيقاعي والنظمي، أو إلى تضمينه الحبكة الفنية في بناء الشخصيات وتطورها، وتناسق وتناسب كذلك مع الأهداف العامة والخاصة [ ص: 71 ] للسورة نفسها وسور القرآن الكريم عامة، أو إلى المعاني المباشرة والإيحاءات الـدلالية، التي تأخـذ بيد المتلقي نحو وجهة اتخاذ القرار.. إنه كل ذلك وأكثر مما نكتشفه مع كل قراءة متأنية للقصص القرآني.

ب- الجمال:

الجمال مصدر جميل والفعل جمل.. قال ابن الأثير: والجمال يقع على الصور والمعاني، ومنه الحديث: ( إن الله جميل يحب الجمال ) (أخرجه الحاكم في المستدرك)، أي حسن الأفعال، كامل الأوصاف [2] .

وقد وردت لفظة الجمال في القرآن الكريم في أكثر من موضع، منها قوله تعالى يصف الصبر: ( فاصبر صبرا جميلا ) (المعارج:5)، ( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) (يوسف:18)، ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ) (يوسف:83).

ويصف الصفح في قوله تعالى: ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) (الحجر:85). [ ص: 72 ]

ومنها قوله تعالى ناعتا الهجر والسراح [3] بالجمال: ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) (المزمل:10)، ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) (الأحزاب:28)، ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) (الأحزاب:49).

كما وردت في وصف الإبل في قوله تعالى: ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) (النحل:6).

ودعوة الله تعالى الإنسان بالتمسك بدلالات الجمال في مواطن قد يكون فيها أذى وظلم يشير إلى أن الجمال قيمة أخلاقية وسلوكية. فهو مطلب أساس لتيسير حياته، يقول القرطبي في معرض حديثه عن تفسير الآية السابقة: "قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال؛

فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القـلب متـلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر؛

وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد؛ [ ص: 73 ]

وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم.

وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصـائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان {..}؛ ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا {..} ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درهـا وسرور النفس بـها إذ ذاك، والله أعلم" [4] .

فالإحساس بالجمال وتوطينه في النفس الإنسانية، يجعل السلوك مشرب بترشيد تصرفات الإنسان وانفعالاته ومواقفه في جميع حالاته، لتتحول المشاعر السلبية إلى أخرى إيجابية، تمنح طاقات البناء وليس الهدم. فيتحول الهجر والسراح والصبر وغيرها من المواقف الانفعالية، وردات الفعل الصادرة عن الذات، التي تشعر بالظلم والأذى، تتحول بالسلوك الجمالي إلى مواقف للصلح والتقويم والاستيعاب والعفو.

وتضمين القصة القرآنية مثل هذه الدلالات، تكشف عن وحدة القيم بينها وبين باقي أجزاء القرآن الكريم. فدعوة نبي الله يعقوب، عليه السلام، الذي ابتلي بفقـدان فلـذة كبـده، وأعز أبنائه إلى قلبه، ليس بالتحلي بالصبر فقط، وإنما بالصبر الموصوف بالجمال ليصبح وسيلة تربوية مهمة في التأثير على المتلقي، الذي قد يبتليه الله في أي موقع أو مجال من مواقع [ ص: 74 ] ومجالات الحياة، فيجد فيه ما يخفف به من وطأة الأحزان الجاثمة على صدره، سواء في السلوك والممارسات في بناء العلاقات، أم بالتعرف والتقرب من عظمة الله وجلاله وملكوته.

والحضور القوي للآيات الداعية للتأمل في آيات الله باستحضار مفهوم الجمال تسعف المتلقي على تذوق ما في المخلوقات من روعة وإبداع، للوصول إلى معرفة قدرة الله وعظمته، إذ الكون بكل ما فيه من تناسق وروعة وجمال وحسن يشكل لوحات فنية رائعة، تأخذ بيد الإنسان لمعرفة خالقه.

وهناك آية صريحة، تعلن أن القصص القرآني أحسن القصص، وحسنها متناسق ضمن منظومة الوحي، وذلك في قوله تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) (يوسف:3)، ووردت الآية في مستـهل سورة يوسف، وهي من السور المكية، التي فيها من الأنس والرحمة ما يملأ قارئها طمأنينة ورضا، وفيها من الابتلاء تلو الآخر، الذي يعقبه الفرج ما يجعل المتلقي يأمل في رحمة الله.

وقد نزلت في العام الذي توفي فيه أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحميه، وهو العام الذي توفيت فيه زوجته خديجة، التي وقفت إلى جانبه وواسته. وقد حزن عليهما صلى الله عليه وسلم ، فجاءت هذه السورة لتذكره بجمال الفرج بعد الشدة وبحسن الفرح بعـد الحزن، وضمن السورة قصة يوسف، عليه السلام، وما حصل له من الابتلاءات. [ ص: 75 ]

والآية جـاءت بوصفـهـا تـوطـئـة لقصة يوسف، عليه السلام، أفضـلية وحسن القصـص في الـقرآن، لأنـها منتقاة من مجمـوع قصص كثيرة منتشرة في الفضاء الزماني والمكاني للتاريخ البشري، لتخضع للأهداف والأغراض الربانية، التي تقيس ما تعرضه القصص القرآني بمعايير الحسن والكمال والجلال والجمال.

ولفظة ( أحسن ) من صيغ أفعل التفضيل، الأمر الذي يجعلها وصفا للقصص القرآني، مقارنة مع ما يعرض خارج القرآن، ينتمي إلى الجنس الأدبي نفسه. فهذا إيحاء أن هناك قصصا إنسانية حسنة، لكن ما يعرض في القرآن الكريم أحسـن وأفضـل وأجمـل، خاصة أن عملية الانتقاء في هذه القصص لا يتم على مستوى الأحداث، وإنما على مستوى الشخصيـات الإنسانية، من أجل تحقيق مبدأ ( أحسن القصص ) ، التي ترتقي بالمتلقي إلى الإيمان بالحق، وتذوق الجمال الكامن فيها، وإنزال القيم المبثوثة في أعماقها على سلوكه وممارساته وعلاقاته. [ ص: 76 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية