الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله (تعالى): بلى ؛ إلخ.. إثبات من جهته (تعالى) لما نفوه؛ مستلزم لنفي ما أثبتوه؛ وإذ ليس الثابت به مجرد دخول غيرهم الجنة؛ ولو معهم؛ ليكون المنفي مجرد اختصاصهم به؛ مع بقاء أصل الدخول على حاله؛ بل هو اختصاص غيرهم بالدخول؛ كما ستعرفه - بإذن الله (تعالى) -؛ ظهر أن المنفي أصل دخولهم؛ ومن ضرورته أن يكون هو الذي كلفوا إقامة البرهان عليه؛ لا اختصاصهم به؛ ليتحد مورد الإثبات والنفي؛ وإنما عدل عن إبطال ما ادعوه؛ وسلك هذا المسلك؛ إبانة لغاية حرمانهم مما علقوا به أطماعهم؛ وإظهارا لكمال عجزهم عن إثبات مدعاهم؛ لأن حرمانهم من الاختصاص بالدخول؛ وعجزهم عن إقامة البرهان عليه؛ لا يقتضيان حرمانهم من أصل الدخول؛ وعجزهم عن إثباته؛ وأما نفس الدخول؛ فحيث ثبت حرمانهم منه؛ وعجزهم عن إثباته؛ فهم من الاختصاص به أبعد؛ وعن إثباته أعجز؛ وإنما الفائز به من انتظمه قوله - سبحانه -: من أسلم وجهه لله ؛ أي: أخلص نفسه له (تعالى)؛ لا يشرك به شيئا؛ عبر عنها بالوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء؛ ومجمع المشاعر؛ وموضع السجود؛ ومظهر آثار الخضوع؛ الذي هو من أخص خصائص الإخلاص؛ أو توجهه؛ وقصده؛ بحيث لا يلوي عزيمته إلى شيء غيره؛ وهو محسن : حال من ضمير "أسلم"؛ أي: والحال أنه محسن في جميع أعماله؛ التي من جملتها الإسلام؛ المذكور. وحقيقة الإحسان: الإتيان بالعمل على الوجه اللائق؛ وهو حسنه الوصفي؛ التابع لحسنه الذاتي؛ وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ فله أجره ؛ الذي وعد له على عمله؛ وهو عبارة عن دخول الجنة؛ أو عما يدخل هو فيه دخولا أوليا؛ وأيا ما كان؛ فتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل؛ واستحالة نيله بدونه؛ وقوله (تعالى): عند ربه : حال من "أجره"؛ والعامل فيه معنى الاستقرار في الظرف؛ والعندية؛ للتشريف؛ ووضع اسم الرب مضافا إلى ضمير "من أسلم" موضع ضمير الجلالة؛ لإظهار مزيد اللطف به؛ وتقرير مضمون الجملة؛ أي: فله أجره [ ص: 148 ]

                                                                                                                                                                                                                                      عند مالكه؛ ومدبر أموره؛ ومبلغه إلى كماله؛ والجملة جواب "من"؛ إن كانت شرطية؛ وخبرها إن كانت موصولة؛ والفاء لتضمنها معنى الشرط؛ فيكون الرد بقوله (تعالى) بلى ؛ وحده؛ ويجوز أن يكون "من" فاعلا لفعل مقدر؛ أي: بلى؛ يدخلها من أسلم؛ وقوله (تعالى): فله أجره ؛ معطوف على ذلك المقدر؛ وأيا ما كان؛ فتعلق ثبوت الأجر بما ذكر من الإسلام؛ والإحسان؛ المختصين بأهل الإيمان قاض بأن أولئك المدعين من دخول الجنة بمعزل؛ ومن الاختصاص به بألف معزل؛ ولا خوف عليهم ؛ في الدارين؛ من لحوق مكروه ؛ ولا هم يحزنون ؛ من فوات مطلوب؛ أي: يعتريهم ما يوجب ذلك؛ لا أنه يعتريهم لكنهم يخافون ويحزنون؛ والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى "من"؛ كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية