الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              وظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا . واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع .

                                                                                                                                                                                              ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة، وإن تاب، واستدلوا بقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته، وربما استدل بمثل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم وبقوله: فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من [ ص: 566 ] المفلحين وقوله: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وقوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم والظاهر: أن هذا في حق التائب، لأن الاعتراف يقتضي الندم، وفي حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب، تاب الله عليه " والصحيح قول الأكثرين .

                                                                                                                                                                                              وهذه الآيات لا تدل على عدم القطع، فإن الكريم إذا أطمع، لم يقطع من رجائه المطمع، ومن هنا قال ابن عباس : إن "عسى" من الله واجبة، نقله عنه علي بن أبي طلحة . وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ: "عسى" أيضا، ولم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به، كما في قوله: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين وأما قوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن التائب ممن شاء أن يغفر له، كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه . وقد يراد بالحسنة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتبع السيئة الحسنة" ما هو أعم من التوبة، كما في قوله تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ ص: 567 ] وقد روي من حديث معاذ أن الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ويصلي .

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " ثم قرأ هذه الآية: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن عثمان أنه توضأ، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه " .

                                                                                                                                                                                              وفي "مسند الإمام أحمد " عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا، يحسن فيهما الركوع والخشوع، ثم استغفر الله عز وجل غفر له " .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أنس قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا، فأقم علي كتاب الله . قال: "أليس قد صليت معنا؟ " قال نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو [ ص: 568 ] قال -: حدك " .

                                                                                                                                                                                              وخرجه مسلم بمعناه من حديث أبي أمامة .

                                                                                                                                                                                              وخرجه ابن جرير الطبري من وجه آخر عن أبي أمامة ، وفي حديثه قال: "فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد" . وأنزل الله: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء " قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " عن عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره " .

                                                                                                                                                                                              وفيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه " . [ ص: 569 ] وفيهما عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله " .

                                                                                                                                                                                              وفيه من حديث أبي قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صوم عاشوراء: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " . وقال في صوم يوم عرفة: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده " .

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الذي يعمل السيئات، ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى، فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض " .

                                                                                                                                                                                              ومما يكفر الخطايا ذكر الله عز وجل، وقد ذكرنا فيما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول: "لا إله إلا الله " أمن الحسنات هي؟ قال: "هي أحسن الحسنات " .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال . سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" . [ ص: 570 ] وفيهما عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك " .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" وكتاب ابن ماجه عن أم هانئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال . "لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل " .

                                                                                                                                                                                              وخرج الترمذي عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه مر بشجرة يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: "إن الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لتساقط من ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة" .

                                                                                                                                                                                              وخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها " .

                                                                                                                                                                                              والأحاديث في هذا كثيرة جدا يطول الكتاب بذكرها .

                                                                                                                                                                                              وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى من معصية إلا أن لسانه لا يفتر من ذكر الله، فقال: إن ذلك لعون حسن .

                                                                                                                                                                                              وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالا من شبهة: صلاته وتسبيحه [ ص: 571 ] يحط عنه شيئا من ذلك؟ فقال: إن صلى وسبح يريد به ذلك، فأرجو، قال الله تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم

                                                                                                                                                                                              وقال مالك بن دينار : البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما تحط الريح الورق اليابس .

                                                                                                                                                                                              وقال عطاء : من جلس مجلسا من مجالس الذكر كفر به عشرة مجالس من مجالس الباطل .

                                                                                                                                                                                              وقال شويس العدوي - وكان من قدماء التابعين -: إن صاحب اليمين أمير - أو قال: أمين - على صاحب الشمال، فإذا عمل ابن آدم سيئة، فأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال له صاحب اليمين: لا تعجل لعله يعمل حسنة، فإن عمل حسنة، ألقى واحدة بواحدة، وكتب له تسع حسنات، فيقول الشيطان: يا ويله، من يدرك تضعيف ابن آدم .

                                                                                                                                                                                              وخرج الطبراني - بإسناد فيه نظر - عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نام ابن آدم، قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك، فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة، محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات . فإذا أراد أن ينام أحدكم، فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة، ويحمد الله أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح الله ثلاثا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة" . وهذا غريب ومنكر .

                                                                                                                                                                                              وروى وكيع : حدثنا الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص . قال: قال عبد الله ، يعني ابن مسعود : وددت أني صولحت على أن أعمل كل [ ص: 572 ] يوم تسع خطيئات وحسنة .

                                                                                                                                                                                              وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحى بها التسع خطيئات، ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة، فيكتفي به، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية