الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                      169 أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ونصير بن الفرج واللفظ له قالا حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة رضي الله عنها قالت فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                      169 ( أعوذ برضاك من سخطك ) قال ابن خاقان البغدادي : سمعت النقاد يقول : طلب الاستغاثة [ ص: 103 ] من الله نقص من التوكل ، وقوله صلى الله عليه وسلم : أعوذ برضاك من سخطك أي أنت الملجأ دون حائل بيني وبينك ، لصدق فقره إلى الله تعالى بالغيبة عن الأحوال وإضمار الخير ، أي أسألك الرضاء عوضا من السخط . ذكره ابن ماكولا الشيرازي في كتاب أخبار العارفين ، وقال القاضي عياض - رضي الله عنه - : وسخطه ومعافاته وعقوبته من صفات كماله ، فاستعاذ من المكروه منهما إلى المحبوب ، ومن الشر إلى الخير قال القرطبي : ثم ترقى عن الأفعال إلى منشئ الأفعال فقال ( وأعوذ بك منك ) مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق ، وهذا محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ، ولا يضبطه صفة وقوله ( لا أحصي ثناء عليك ) أي لا أطيقه ، أي لا أنتهي إلى غايته ، ولا أحيط بمعرفته ، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن ، وروى مالك : لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء عليك ، وإن اجتهدت في ذلك ، والأول أولى لما ذكرناه ، ولقوله في الحديث ( أنت كما أثنيت على نفسك ) ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عند ما ظهر له من صفات جلاله - تعالى وكماله وصمديته وقدوسيته وعظمته وكبريائه وجبروته ، ما لا ينتهى إلى عده ، ولا يوصل إلى حده ، ولا يحمله عقل ، ولا يحيط به فكر ، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام ؛ ولذلك قال الصديق الأكبر : العجز عن درك الإدراك إدراك . وقال بعض العارفين : سبحان من رضي في معرفته بالعجز عن معرفته ، وقال ابن [ ص: 104 ] الأثير في النهاية : بدأ في هذا الحديث بالرضا ، وفي رواية : بدأ بالمعافاة ثم بالرضا ، وإنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة لأنها من صفات الأفعال كالإماتة والإحياء والرضا ، والسخط من صفات الذات ، وصفات الأفعال أدنى مرتبة من صفات الذات ، فبدأ بالأدنى مترقيا إلى الأعلى ، ثم لما ازداد يقينا وارتقاء ترك الصفات وقصر نظره على الذات فقال : وأعوذ بك منك ثم ازداد قربا استحيا معه من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فقال : لا أحصي ثناء عليك ثم علم أن ذلك قصور فقال : أنت كما أثنيت على نفسك ، وأما على الرواية الأولى فإنما قدم الاستعاذة بالرضا من السخط ؛ لأن المعافاة من العقوبة تحصل بحصول الرضا ، وإنما ذكرها ؛ لأن دلالة الأول عليها دلالة تضمن ، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة ، فكنى عنها أولا ثم صرح ثانيا ، ولأن [ ص: 105 ] الراضي قد يعاقب للمصلحة أو لاستيفاء حق الغير اهـ .




                                                                                                      الخدمات العلمية