الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ورفعنا فوقكم الطور ) : سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدسة ، أو من السجود ، أو من أخذ التوراة والتزامها ، أقوال ثلاثة ، روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها ، كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا . فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم نارا بين أيديهم ، فاحتاط بهم غضبه ، فقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر ، وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا . فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد . وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رءوسهم كان مقدار قامة الرجل ، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة . والواو في قوله : ( ورفعنا ) واو العطف على تفسير ابن عباس ; لأن أخذ الميثاق كان متقدما ، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور . وأما على تفسيرأبي مسلم : فإنها واو الحال ، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم ، نحو قوله تعالى : ( ونادى نوح ابنه وكان في معزل ) ، أي وقد كان في معزل .

( خذوا ما آتيناكم ) : هو على إضمار القول ، أي : وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم . وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضمار قول ; لأن أخذ الميثاق هو قول ، والمعنى : وإذ أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم ، و ( ما ) موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : ما آتيناكموه ، ويعني به الكتاب . يدل على ذلك قوله : ( واذكروا ما فيه ) ، وقرئ : ما آتيتكم ، وهو شبه التفات ; لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره . ومعنى قوله : ( بقوة ) بجد واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي ، أو بعمل ، قاله مجاهد ; أو بصدق وحق ، قاله ابن زيد ; أو بقبول ، قاله ابن بحر ; أو بطاعة ، قاله أبو العالية والربيع ; أو بنية وإخلاص ، أو بكثرة درس ودراية ; أو بجد وعزيمة ورغبة وعمل ; أو بقدرة . والقوة : القدرة والاستطاعة . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى . والباء للحال أو الاستعانة .

( واذكروا ما فيه ) . قرأ الجمهور به أمرا من ذكر ، وقرأ أبي : ( واذكروا ما فيه ) أمرا من اذكر ، وأصله : واذتكروا ، ثم أبدل من التاء دال ، ثم أدغم الذال في الدال ، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني ، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ، ويدغم فيه الأول فيقال : اذكر ، ويجوز الإظهار فتقول : اذذكر . وقرأ ابن مسعود : تذكروا ، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا . فعلى القراءتين قيل : هذا يكون أمرا بالإذكار ، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتبا على حصول الأخذ بقوة ، أي إن تأخذوا بقوة تذكروا ما فيه . وذكر الزمخشري أنه قرئ : وتذكروا أمرا من التذكر ، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود ، ووهم الذي نقلناه من كتابه ( تذكروا ) في إسقاط الواو ، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب ، قاله ابن عباس ; أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه ، قاله الزجاج ; أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى . والذكر : قد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب على ما سبق ، وقد يكون [ ص: 244 ] بهما . فباللسان معناه : ادرسوا ، وبالقلب معناه : تدبروا ، وبهما معناه : ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه . أو أريد بالذكر ثمرته ، وهو العمل ، فمعناه : اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع . والضمير في ( فيه ) يعود على ( ما ) . وقال في المنتخب : لا يحمل على نفس الذكر ; لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى ، فكيف يجوز الأمر به ؟ انتهى .

( لعلكم تتقون ) : أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه . وقيل : معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه ، والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه ، يدل على ذلك : ( ثم توليتم من بعد ذلك ) . فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به ، وفي بعض القصص أنهم قالوا ، لما زال الجبل : يا موسى سمعنا وأطعنا ، ولولا الجبل ما أطعناك . وفي بعض القصص : فآمنوا كرها ، وظاهر هذا الإلجاء . والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود ، حتى كان إيمانهم طوعا لا كرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية