الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )

قال أبو جعفر : وهذا الكلام من الله جل ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة ، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به ، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرا ، فهداه جل ثناؤه لرشده ، ووفقه للإيمان . فقال لهم : أطاعة من كان ميتا ، يقول : من كان كافرا ؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته ، وجهله بتوحيده وشرائع دينه ، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته ، بمنزلة " الميت " الذي لا ينفع نفسه بنافعة ، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة ( فأحييناه ) ، يقول : فهديناه للإسلام ، فأنعشناه ، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها ، ويعمل في خلاصها من سخط [ ص: 89 ] الله وعقابه في معاده . فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عماه عنه ، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك ، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل ، ومنهج الطريق في الناس ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري كيف يتوجه ، وأي طريق يأخذ ؛ لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق . فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر ، لا يبصر رشدا ولا يعرف حقا ، يعني في ظلمات الكفر . يقول : أفطاعة هذا الذي هديناه للحق وبصرناه الرشاد ، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردد ، لا يعرف المخرج منها في دعاء ، هذا إلى تحريم ما حرم الله ، وتحليل ما أحل ، وتحليل هذا ما حرم الله ، وتحريمه ما أحل ؟

وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين : أحدهما مؤمن ، والآخر كافر .

ثم اختلف أهل التأويل فيهما .

فقال بعضهم : أما الذي كان ميتا فأحياه الله ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه . وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك :

13836 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا سليمان بن أبي هوذة ، عن شعيب السراج ، عن أبي سنان عن الضحاك في قوله : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، قال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( كمن مثله في الظلمات ) ، قال : أبو جهل بن هشام . [ ص: 90 ]

وقال آخرون : بل الميت الذي أحياه الله ، عمار بن ياسر رحمة الله عليه . وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك :

13837 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن بشر بن تيم ، عن رجل ، عن عكرمة : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، قال : نزلت في عمار بن ياسر .

13838 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن بشر بن تيم ، عن عكرمة : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، عمار بن ياسر ( كمن مثله في الظلمات ) ، أبو جهل بن هشام .

وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

13839 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) قال : ضالا فهديناه ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، قال : هدى ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، قال : في الضلالة أبدا .

13840 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 91 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) ، هديناه ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ) في الضلالة أبدا .

13841 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) ، قال : ضالا فهديناه .

13842 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) ، يعني : من كان كافرا فهديناه ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، يعني بالنور ، القرآن ، من صدق به وعمل به ( كمن مثله في الظلمات ) ، يعني : بالظلمات ، الكفر والضلالة .

13843 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، يقول : الهدى " يمشي به في الناس " ، يقول : فهو الكافر يهديه الله للإسلام . يقول : كان مشركا فهديناه ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) .

13844 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبينة يعمل بها ويأخذ ، وإليها ينتهي ، كتاب الله ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة ، متحير فيها متسكع ، لا يجد مخرجا ولا منفذا .

13845 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط عن السدي : ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، يقول : من كان كافرا فجعلناه مسلما ، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ، وهو الإسلام ، يقول : هذا كمن هو في الظلمات ، يعني الشرك . [ ص: 92 ]

13846 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، قال : الإسلام الذي هداه الله إليه ( كمن مثله في الظلمات ) ، ليس من أهل الإسلام . وقرأ : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) ، [ سورة البقرة : 257 ] . قال : والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره ، وكذلك الذي آتاه الله هذا النور ، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره ، كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال : ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية