الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) أي قال : أي ربي ، الغالب على أمري ، العالم بسري وجهري ، إن الحبس والاعتقال في السجن مع المجرمين حيث شظف العيش أحب إلى نفسي ، وآثر عندي على ما يدعوني إليه هؤلاء النسوة من الاستمتاع بهن في ترف هذه القصور وزينتها ، والاشتغال بحبهن عن حبك ، وبقربهن عن قربك ، وبمغازلتهن عن [ ص: 245 ] مناجاتك ، وإنما يفسر ويشرح هذا بما يعلم من سياق القرآن ، ومن طباع الرجال والنسوان ، ومن التاريخ العام ، والسنن الاجتماعية والأخلاق والعادات ، وسيرة الصالحين والأنبياء ، دون حاجة إلى ما لا سند له ولا دليل عليه من الروايات ودسائس الإسرائيليات ، ومنه أنه ليس في السجن إلا الاعتبار بأحكام الملوك وأعوانهم من الوزراء والقضاة على من يسخطون عليهم بحق أو بغير حق ، مما يزيدني إيمانا بقضائك ، وصبرا على بلائك ، وشكرا لنعمائك ، وعلما بشئون خلقك ، ويفتح لي باب الدعوة إلى معرفتك وتوحيدك ، والاستعداد لإقامة الحق ، ونصب ميزان العدل ، فيما عسى أن تخولني من الأمر ، إذا مكنت لي كما وعدتني في الأرض .

                          هذا ما يتبادر إلى الفهم من توجيه التفضيل في الحب ، تدل عليه حالة يوسف وسابق قصته ولاحقها بغير تكلف ولا تحكم ، كما هو دأبنا في كل ما تفسر به هذه القصة وغيرها ، وهو يصدق في جعل اسم التفضيل هنا لا مفهوم له أو على غير بابه كما يقال ، فليس المراد أن ما يدعوني إليه محبوب عندي والسجن أحب إلي منه ، وإنما معناه أن هذين الأمرين إذا تعارضا وكان لا بد من أحدهما ، فالسجن آثر وأولى بالترجيح ؛ لأن ما فيه من المشقة له فائدة عاجلة ، وعاقبة صالحة ، وأما مجاهدة هؤلاء النسوة مع المكث معهن ، فهو أشق على المؤمن العارف بربه ، وليس له من الفائدة والعاقبة ما للسجن ، فهو - أي اسم التفضيل - من قبيل قول المحدثين في بعض الأحاديث الضعيفة : هو أصح ما في هذا الباب ، يعنون : أقوى ما فيه وإن كانت كلها غير صحيحة ، بل هو كقوله الآتي : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) 39 .

                          وقيل : يجوز أن يكون المراد من التفضيل ترجيح الأحب بمقتضى الإيمان وحكم الشرع على المحبوب بمقتضى الغريزة وداعية الطبع ، فإن الأنبياء والصلحاء كسائر البشر يحبون النساء ويشتهون الاستمتاع بهن ، ولكنهم يكرهون أن يكون من غير الوجه المشروع وشره الاعتداء على نساء الناس . ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للفقراء : ( ( وفي بضع أحدكم صدقة ) ) قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( ( أرأيتم إذا وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ) رواه مسلم من حديث أبي ذر .

                          وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله حيث لا ظل إلا ظله في موقف القيامة : ( ( ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال إني أخاف الله ) ) وهو حديث متفق عليه .

                          وذلك بأن للمرأة ذات المنصب سلطانا على قلب الرجل فوق سلطان الوضيعة في طبقتها ، وإن كانت جميلة الصورة ، فيثقل على طبعه وتضعف إرادته أن يرد طلبها ، فكيف بها إذا جمعت بين سلطان الجمال وسلطان المنصب ثم ذلت له ودعته إلى نفسها ؟

                          [ ص: 246 ] ( فإن قيل ) : إن المرأة إذا ابتذلت نفسها فبذلتها للرجل بذلا ، وتحول دلها عليه مهانة وذلا ، فإنه يحتقرها ، وتتحول رغبته فيها رغبة عنها ، وكلما تمنعت عليه ازداد حبا لها وشوقا إليها ، كما قال الشاعر :


                          منعت شيئا فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإنسان ما منعا



                          ( قلنا ) : نعم إن هذا مقتضى الطبع السليم ، كما أن رد ذات الجمال والمنصب من ضعف الرجل أمام المرأة ، ولكن المراودة قلما تبلغ من هؤلاء حد الوقاحة في الصراحة فتكون منفرة ، وقد علمت أنها احتيال ومراوغة لتحويل الإرادة ، وإن لنساء الأكابر في الأمصار التي أفسدتها الحضارة كيدا فيها وخداعا ، وإن لأستاذهن الشيطان مسالكا من إغوائهن والإغواء بهن يحز أقوى الرجال تجاهها صريعا ، ولكن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان ، وعناية ربهم بهم تغلب غوايته ومكر النسوان ، وقد لجأ يوسف - عليه السلام - إلى هذه العناية ، إذ عرض له كيد بضع نسوة من ذوات الجمال والمنصب لا بضاعة لهن إلا أبضاعهن ، فقال : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ) يعني : إن لم تحول عني ما ينصبنه لي من شراك الكيد ، ويمددنه من شباك الصيد ، لم أسلم من الصبوة إليهن ، وهي الميل إلى موافقتهن على أهوائهن ، يقال : صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى اللهو وما يطيب للنفس من اتباع الهوى ، ومنه ريح الصبا وهي التي تهب على بلاد العرب من مشرق الشمس ، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها ، حتى إن تغزل شعرائهم بها ليضاهي تغزلهم بعشيقاتهم رقة وصبابة ، ولا سيما إذا اقترفا وامتزجا كقول بعضهم :


                          خذا من صبا نجد أمانا لقلبه     فقد كاد رياها يطير بلبه
                          وإياكما ذاك النسيم فإنه     إذا هب كان الوجد أيسر خطبه



                          ( وأكن من الجاهلين ) أي من صنف السفهاء الذين تستخفهم أهواء النفس فيعملون السوء بجهالة ، وهي ما يخالف مقتضى الحلم والأناة ، أو مقتضى العلم والحكمة ، فإن من [ ص: 247 ] يعيش بين أمثال هؤلاء النسوة الماكرات المترفات - مثلي - لا مفر له من الجهل إلا بعصمتك وحفظك بما هو فوق الأسباب المعتادة ، وهذا نص صريح منه - عليه السلام - بأنه ما صبا إليهن ، ولا أحب أن يعيش معهن ، وإنما بين مقتضى الاستهداف لكيد هؤلاء النساء ، وسأل ربه أن يديم له ما وعده في قوله : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء 24 .

                          فاستجاب له ربه ما دعاه به وطلبه منه ، الذي دل عليه هذا الابتهال والالتجاء إليه وطوى ذكره إيجازا فصرف عنه كيدهن فلم يصب إليهن ، فيحتاج إلى جهاد نفسه لكفها عن الاستمتاع بهن ، وعصمه أن يكون ( ( من الجاهلين ) ) باتباع هواهن ( إنه هو السميع المجيب ) لمن أخلص له الدعاء ، جامعا بين مقامي الخوف والرجاء ، العليم بصدق إيمانهم ، وما يصلح من أحوالهم ، فعطف استجابة ربه له ، وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب ، وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم ، دليل على أن ربه - عز وجل - لم يتخل عن عنايته بتربيته ، أقصر زمن يهتم فيه بأمر نفسه ومجاهدته ، ومؤيد لقوله - تعالى - في أول سياق هذه الفتنة : ( والله غالب على أمره ) 21 .

                          ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) بدا هذه من البداء ( بالفتح ) لا من البدو المطلق ، أي ثم ظهر لهم من الرأي ما لم يكن ظاهرا من قبل ، ومنه كلمة سيدنا علي البليغة ( ( فما عدا مما بدا ) ) أي فما عداك وصرفك عما كنت فيه مما بدا لك الآن وكان خفيا عنك قبله ، ولذلك عطفت الجملة بـ ( ثم ) التي تفيد الانتقال مما كانوا فيه إلى طور جديد بعد التشاور والتروي في الأمر ، وضمير لهم يرجع إلى أهل دار العزيز وامرأته ومن يعنيه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها ، والمراد بـ ( الآيات ) ما شهدوه واختبروه من الدلائل على أن يوسف إنسان غير الأناسي التي عرفوها في عقيدته وإيمانه وأخلاقه ، من عفة ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة ، ومن عناية ربه الواحد الأحد به كما يؤمن ويعتقد ، فمن هذه الآيات : أن تفتن سيدته في مراودته ، ولم يحدث أدنى تأثير في جذب خلسات نظره ، ولا في خفقات قلبه ، بل ظل معرضا عنها متجاهلا لها ، حتى إذا ما صارحته بكلمة هيت لك اقشعر جلده ، واستعاذ بربه ، رب آبائه الذين يفتخر باتباع ملتهم ، وعيرها بالخيانة لزوجها .

                          ( ومنها ) أنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها وهي سيدته ، وما منعه من ذلك إلا ما رأى من البرهان في دخيلة نفسه . مؤيدا لما يعتقده من صرف ربه السوء والفحشاء عنه .

                          ( ومنها ) أنها لما اتهمته بالتعدي عليها وأرادوا التحقيق [ ص: 248 ] في المسألة شهد شاهد من أهلها هو جدير بالدفاع عنها ، بما تضمن الحكم عليها بأنها كاذبة في اتهامها إياه بإرادة السوء بها ، وأنه صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه .

                          ( ومنها ) مسألة انتشار خبرها معه وخوض نساء المدينة في افتتانها به وإذلال نفسها ببذلها له مع إعراضه عنها .

                          ( ومنها ) مسألة مكر هؤلاء النسوة وأعمقهن كيدا معه ، إذ حاولن رؤيته وتواطأن عن مراودته ودهشتهن مما شاهدن من جماله ، حتى قطعن أيديهن بدلا مما في أيديهن وهن لا يشعرن .

                          فجميع هذه الآيات تثبت أن بقاءه في هذه الدار بين ربتها وصديقاتها من هؤلاء النسوة مثار فتنة للنساء لا تدرك غايتها ، وأن الحكمة والصواب في أمرها هو تنفيذ رأيها الأول في سجنه - وإن كانت سيئة النية ماكرة فيه - لإخفاء ذكره ، وكف ألسنة الناس عنها في أمره ، ( فأقسموا ليسجننه حتى حين ) أي إلى أجل غير معين ، حتى يكونوا مطلقي الحرية في طول مكثه وقصره وإخراجه ، ويروا ما يكون من تأثير السجن فيه وحديث الناس عنه . وهذا القرار يدل على أن هذه المرأة كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير ، تقوده بقرنيه كيف شاء هواها ، وأنه كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء الدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات ، وقد أعجبني فيه قول الزمخشري على قلة ما أعجبني من أقوال المفسرين في هذه القصة التي شوهتها عليهم الروايات الإسرائيلية المخترعة والعناية بإعرابها ؛ قال في تفسير ما رأوا من الآيات : وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها . ا هـ .

                          [ ص: 249 ] وجملة القول في هذه الحادثة أن يوسف - عليه السلام - كان أكمل مثل للعفة والصيانة والأمانة من أولها إلى آخرها ، وهي في سفر التكوين ناقصة ومخالفة لما هنا في دعوى المرأة ، والله أعلم من مؤلف سفر التكوين المجهول بما كان وبما ينفع الناس .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية