الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثانية من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في دعواهم وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء ، يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى . قال بعض المفسرين : ( دعواهم ) أي : دعاؤهم . وقال تعالى في أهل الجنة : ( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون ) [ يس : 57 ] وقال في آية أخرى ( يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ) [ الدخان : 55 ] ومما يقوي أن المراد من الدعوى هاهنا الدعاء ، هو أنهم قالوا : اللهم ، وهذا نداء لله سبحانه وتعالى ، ومعنى قولهم : ( سبحانك اللهم ) إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : " اللهم إياك نعبد " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره قوله تعالى : ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ) [ مريم : 48 ] أي : وما تعبدون . فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف ، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال بعضهم : لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم ، والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب ، والإقرار له بالإلهية . قال القفال : أصل ذلك أيضا من الدعاء ؛ لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال مسلم : ( دعواهم ) أي : قولهم وإقرارهم ونداؤهم ، وذلك هو قولهم : ( سبحانك اللهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال القاضي : المراد من قوله : ( دعواهم ) أي : طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم . والدليل على أن المراد ذلك أن قوله : ( سبحانك اللهم ) ليس بدعاء ولا بدعوى ، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره ، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة . فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر ، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال القفال : قيل في قوله : ( ولهم ما يدعون ) [ يس : 57 ] أي : ما يتمنونه ، والعرب تقول : ادع ما شئت علي ، أي : تمن . وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا : سبحانك اللهم ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا : سبحانك اللهم ، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني . وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم ، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى ، أي : تمنيهم لما يتمنونه ، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : قال القفال أيضا : ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى : ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه ، كقولهم : يا آل فلان ، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى ، وسكونهم بتحميدهم الله . ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى . [ ص: 37 ]

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أن قوله : ( سبحانك اللهم ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قول من يقول : إن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات ، قال ابن جريج : إذا مر بهم طير اشتهوه قالوا : سبحانك اللهم ؛ فيؤتون به ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : ( الحمد لله رب العالمين ) وقال الكلبي : قوله : ( سبحانك اللهم ) علم بين أهل الجنة والخدام ، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون . واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة : ( ولهم ما يشتهون ) فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير ، فلا حاجة بهم إلى الطلب ، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب ، فقد سقط هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به ، وهذا باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في تأويل هذه الآية أن نقول : المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه ، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به ، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه ، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه . ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه ، أحدها : قال القاضي : إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم ، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : ( سبحانك اللهم ) أي : نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن نقول : غاية سعادة السعداء ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه ، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية . أما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال ، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام ، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصورا عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 78 ] وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات ، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ . وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين ، لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه ، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ، ألا ترى أنهم قالوا : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم ، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي ، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام ، بعد انقراض العالم ، ولما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي ، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة ، فإن المصلي إذا كبر قال : " سبحانك اللهم وبحمدك ، [ ص: 38 ] تبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك " .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية