الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الخامسة : في كون العموم له صيغة حقيقة

                        ذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة ، وهي أسماء الشرط ، والاستفهام ، والموصولات ، والجموع المعرفة تعريف الجنس ، والمضافة ، واسم الجنس ، والنكرة المنفية ، والمفرد ، والمحلى باللام ، ولفظ كل وجميع ونحوها ، وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكرا مفصلا .

                        قالوا : لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة ; لتعذر جمع الآحاد على المتكلم ، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة ; لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام .

                        واحتجوا أيضا : بأن السيد إذا قال لعبده : لا تضرب أحدا ، فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدا ، عد مخالفا ، والتبادر دليل الحقيقة ، والنكرة في النفي للعموم حقيقة ، فللعموم صيغة ، وأيضا لم يزل العلماء يستدلون بمثل والسارق والسارقة فاقطعوا و الزانية والزاني فاجلدوا وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة بمثل الصيغ المذكورة على العموم ، ومنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الحمر الأهلية ، فقال لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وما ثبت أيضا من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة ، والعدول إلى التيمم مع شدة البرد ، فقال : سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم فقرر ذلك [ ص: 345 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكم يعد العاد من مثل هذه المواد .

                        وما أجيب به عن ذلك بأنه إنما بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه .

                        وقال محمد بن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع الثلجي من الحنفية : أنه ليس للعموم صيغة تخصه ، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص ، وهو أقل الجمع إما اثنان ، أو ثلاثة على الخلاف في أقل الجمع ، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة .

                        قال القاضي في التقريب والإمام في البرهان : يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب . انتهى .

                        ولا يخفاك أن قولهم : موضوع للخصوص ، مجرد دعوى ليس عليها دليل ، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعا وعرفا ، وكل من يفهم لغة العرب ، واستعمالات الشرع لا يخفى عليه هذا .

                        وقال جماعة من المرجئة : إن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم بذاته ، ولا مع القرائن ، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري .

                        قال في البرهان : نقل مصنفو المقامات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية ، وهذا النقل على الإطلاق زلل ، فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به ، كقول القائل : رأيت القوم واحدا واحدا ، لم يفتني منهم أحد ، وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصا إلى غير ذلك ، وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع . انتهى .

                        [ ص: 346 ] ولا يخفاك أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله ، وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عاما شاملا عناد ومكابرة .

                        وقال قوم بالوقف ، ونقله القاضي في التقريب عن أبي الحسن الأشعري ومعظم المحققين وذهب إليه .

                        واحتجوا بأنهم سبروا اللغة ووضعها فلم يجدوا في وضع اللغة صيغة دالة على العموم ، سواء وردت مطلقة أو مقيدة بالقرائن ، فإنها لا تشعر بالجمع ، بل تبقى على التردد ، هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع ، كقول القائل : رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين ، فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها . انتهى .

                        وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال :

                        الأول : وهو المشهور من مذهب أئمتهم ، القول به على الإطلاق من غير تفصيل .

                        الثاني : أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد ، دون الأمر والنهي ، حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي . قال : وربما ظن ذلك من مذهب أبي حنيفة ; لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ، ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة .

                        الثالث : القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد ، والتوقف فيما عدا ذلك ، وهو قول جمهور المرجئة .

                        الرابع : الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها .

                        الخامس : الوقف في الوعيد دون الوعد ، قال القاضي : وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق .

                        السادس : الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئا من أدلة السمع ، وكانت وعدا أو وعيدا ، فيعلم أن المراد بها العموم ، وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع ، وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص ، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به ، حكاه القاضي في مختصر التقريب .

                        السابع : الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع منه صلى الله عليه وآله وسلم ، [ ص: 347 ] وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه ، كذا حكاه المازري .

                        الثامن : التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد ، فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد .

                        التاسع : أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها ، حكاه المازري عن بعض المتأخرين .

                        وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق ، بعدم توازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم ، بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه ، فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له .

                        والحاصل أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه ظاهر لكل من يفهم فهما صحيحا ويعقل الحجة ويعرف مقدارها في نفسها ومقدار ما يخالفها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية