الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

الفصل الرابع المدرسة التأصيلية والدعوة إلى التوحيد

لا شك أن الانحراف الذي وقع للأمة الإسلامية في منهج تربيتها، وتدينها منذ القرن الرابع الهجري، وترسخ في الخامس قد نبه علماء آخرين، ممن لم يستسلم لتخدير الوساطة في الاعتقاد، أو السلوك، لرسوخ قدمه في فهم القصد التوحيدي للإسلام..لذلك لم تخل ساحة الإصلاح الدعوي من علماء، شكلوا محطات هـامة، في تاريخ الفكر الإسلامي عامة، والفكر الدعوي خاصة، فاشتهرت مناراتهم في ظلمات التقليد، ذات الوساطات المتعددة الأوجه، والأشكال، فحاولوا رغم ذلك فك الحصار الوساطي من جميع جهاته، وقادوا معارك ضد كل وثنية معنوية، أو مادية، سلاحهم في ذلك نصوص القرآن، والسنة النبوية، مؤصلين ومجددين، داعين إلى العودة إلى ما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الأفاضل، رضوان الله عليهم، والسلف الصالح ممن تبعهم بإحسان، عبر القرون الثلاثة الخيرة.

فالقرن الخامس الهجري الذي نجحت فيه الوساطة، بشقيها: [ ص: 99 ] الفكري والروحي، في نيل المشروعية، لتقود، وتوجه التدين الجماهيري للأمة الإسلامية، على يد أبي حامد الغزالي ، كما تبين، قد صنع رد فعل إيجابي للمنهج التوحيدي، بدءا بالقرن السادس الهجري إلى يومنا هـذا، لم يفتر، ولم يهن، على الرغم من سيطرة الوساطة في أبشع صورها سيطرة تامة عبر عصور الانحطاط.

ورغم اختلاف القرون، والمواقع، والظروف، التي ظهر فيها دعاة التوحيد، فقد كان المنهج واحدا، والمضمون متحدا لديهم جميعا، وإنما يقع الاختلاف في مجال التكييف، والتنزيل للدعوة التوحيدية، وتربية الناس عليها.

لقد كان الهم الأكبر لهذا الاتجاه، هـو التأصيل.. التأصيل لكل شكل من أشكال التدين، نظرا لأن الخرق الذي دخلت منه الوساطة على الأمة، هـو إعطاء المرجعيات الاجتهادية في الاعتقاد، والسلوك، قوة المصدرية، التي ليست لغير النص الشرعي.. والتأصيل إنما هـو استصدار القرارات والأحكام، من داخل النص، بأي صورة من صور الاجتهاد ، المنضبط بضوابطه، وأي انحراف عن هـذا المنهج، فإنه انزلاق إلى ضلال الوساطة، سواء كان في المجال التربوي، أو غيره.. والتأصيل بعد ذلك، هـو الدعوة إلى التوحيد؛ لأن التدين من خلال النص الشرعي وحده فقط، [ ص: 100 ] هو عين التوحيد، سواء تعلق ذلك التدين بالمجال العقدي التصوري، أو بالمجال العملي والسلوكي.

وقد تراكم إنتاج دعاة التوحيد عبر الأجيال في صورة متكاملة متواترة الخطوات، وهي في جميع أحوالها تنهل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إنك لتجد أحيانا، تردد نفس النصوص بنفس التوظيف، ونفس الاستنباط، مما يجعلها مدرسة واحدة، إضافة إلى الخصائص الأخرى الجامعة التي ذكرناها قبل؛ ولذلك كله، حق أن نسمى مدرسة التأصيل التربوي .

ولعرض هـذه الحركة في معركتها مع الوساطة، سنبتدئ بحول الله، من القرن السادس الهجري، باعتباره القرن الذي شهد بواكير الدعوة التوحيدية ، باعتبارها رد فعل تصحيحي، لما ترسخ خلال القرن الخامس من وساطات. وسنختار نموذجا، من أهم الشخصيات الممثلة لهذا الاتجاه في القرن السادس، ثم شخصيات أخرى ممن جاء بعد، رافعا راية التوحيد في هـذا القرن، أو ذاك، حتى مشارف العصر الحديث.

ولا بد أن نقرر ابتداء، أن النماذج الذين نختارهم، ليس باعتبارهم مجددي قرونهم، بالمعنى المطلق، بقدر ما هـم مشاركون في التجديد، خاصة وأن من العلماء من قرر أن التجديد قد يكون جماعيا لا فرديا؛ [ ص: 101 ] لأن لفظ (من) في ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها ) [1] ، لفظ عموم يفيد الفرد والجماعة بالاشتراك.. وإنما العبرة عندنا، بمن اشتهر بدعوته التوحيدية، وحربه على الوساطة ، وتنزيله لذلك في المجال التربوي خاصة، وترك لنا بعد ذلك من تراثه العلمي، ما يساعدنا على بيان خصائص المدرسة التأصيلية، في دعوتها إلى التوحيد، وهي تخوض غمار العمل الإصلاحي، وتربية الناس، وإنما قصدنا التمثيل بالأبرز، لا الحصر، والاستقصاء. [ ص: 102 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية