الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما عجب سبحانه وتعالى من الضالين وبين من مآلهم ما يزجر مثله من له أدنى عقل فكانوا بذلك في عداد المقبل بعد الإدبار والمذعن بعد الاستكبار أقبل على الكل كما فعل في آية التوحيد الأولى فقال يا أيها الناس اعبدوا ربكم إقبال متلطف بعموم الإذن في تناول ما أبدعه لهم ورحمهم به في هذا الملكوت المذكور في ضمن ما نصب من الأدلة تذكيرا لهم بالنعمة وتوددا إليهم بجميع ما يوجب المحبة وإشارة إلى أنه هو الذي خلق لهم ما تقربوا به إلى غيره مما ادعوه ندا من [ ص: 315 ] البحيرة والسائبة والوصيلة وما شاكلها فقال يا أيها الناس وإن اختصرت فقل : لما أقام سبحانه وتعالى الدليل على الوحدانية بما خلق من المنافع وصنف الناس صنفين ضال معطوف دال بعطفه على غير مذكور على مهتد معطوف عليه وختم بتأبيد عذاب الضال أقبل على الصنفين إقبال متلطف مترفق مستعطف مناديا لهم إلى تأبيد نفعهم قائلا : يا أيها الناس أي : كافة . وقال الحرالي : لما استوفى سبحانه وتعالى ذكر أمر الدين إلى أنهاه من رتبة دين الإسلام الذي رضيه وكان الدين هو غذاء القلوب وزكاة الأنفس نظم به ذكر غذاء الأبدان [ ص: 316 ] من الأقوات ليتم بذكر النماءين نماء الذوات ظاهرها البدني وباطنها الديني ، لما بين تغذي الأبدان وقوام الأديان من التعاون على جمع أمري صلاح العمل ظاهرا وقبوله باطنا ، قال عليه الصلاة والسلام : "لا يقبل الله عملا إلا بالورع الشافي" ; وكما قيل : ملاك الدين الورع ، وهلاكه الترف ، ونقصه السرف ; فكما انتظم الكتاب قصر الخلق على أفضل متصرفاتهم في التدين اتصل به قصرهم على أفضل مأكلهم في التقوت ، ولما ذكر الدين في رتبتي صنفين من الناس والذين آمنوا انتظم به ذكر المأكل في صنفيهما فقال يا أيها الناس فانتظم بخطاب قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم لما بين العبادة والمأكل من الالتزام . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت رتبة الناس من أدنى المراتب في خطابهم أطلق لهم الإذن تلطفا بهم ولم يفجأهم بالتقييد فقال مبيحا لهم ما أنعم به عليهم كلوا ولما كان في الأرض ما لا يؤكل قال : مما في الأرض أي : مما بينا لكم أنه من أدلة الوحدانية .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان في هذا الإذن تنبيه على أن الكل له والانتفاع به يتوقف على إذن منه دلهم على أن فيه ما أباحه وفيه ما حظره فقال : حلالا قال الحرالي : وهو ما انتفى [ ص: 317 ] عنه حكم التحريم فينتظم بذلك ما يكره وما لا يكره ، والتحريم المنع مما يلحق الأكل منه ضرر في جسمه كالميتة ، أو في نفسه كلحم الخنزير ، أو رين على قلبه كما أهل لغير الله به ; ثم أشار إلى أن ما حرم خبيث بقوله : طيبا أي : غير خبيث مستقذر ، والأصل فيه ما يستلذ ; ويوصف به على جهة التشبيه الطاهر لأن النجس تكرهه النفس [ ص: 318 ] لقذره ، والحلال لأن الحرام يقذره العقل لزجر الشرع عنه . وقال الحرالي : الحلال مطلوب ليكتسب لا ليؤكل حتى يطيب ، والطيب ما لا منازغ فيه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا الصنف أدنى المتدينين قرن سبحانه وتعالى بإطعامهم مما في الأرض لكونهم أرضيين نهاهم عن اتباع العدو المبني أمره على المنافرة فقال : ولا تتبعوا وأشار بصيغة الافتعال إلى انهماك هذا الصنف على اللحاق به وأنهم غير واصلين ما داموا في هذا الحيز إلى تمام منابذته وإنما عليهم الجهد لأن مخالفته لا تكون إلا بمجاهدة كثيرة لا يقدرون عليها ما داموا في هذه الرتبة خطوات جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي الشيطان أي : طرقه في وساوسه في اتخاذ الأنداد وتحريم الحلال كالسوائب وتحليل الحرام كالميتات ، فإن ذلك كله من أمره كما يأتي في قوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام الآية وهو من شطن إذا بعد ، وشاط إذا احترق ، فهو يبعدهم - كما قال الحرالي - عن وطن ما هم عليه من الائتمار في مآكلهم إلى التناول بشهواتهم ليستدرجهم لذلك من خطوة الأكل بالشهوة إلى الأكل بالهوى فيتداعى منها إلى المحرمات . [ ص: 319 ] انتهى . ثم علل ذلك بقوله : إنه لكم عدو بتكبره على أبيكم ومكره به وسؤاله الإنظار لإضلالكم مبين أي : ظاهر العداوة فلا تتبعوا العدو في منابذة الولي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية