الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ما ابتلي الحافظ به :

                                                                                      قال الضياء : سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار ، سمعت الحافظ يقول : سألت الله أن يرزقني مثل حال الإمام أحمد فقد رزقني صلاته ، قال : ثم ابتلي بعد ذلك وأوذي .

                                                                                      سمعت الإمام عبد الله بن أبي الحسن الجبائي بأصبهان يقول : أبو نعيم قد أخذ على ابن منده أشياء في كتاب " الصحابة " فكان الحافظ أبو موسى يشتهي أن يأخذ على أبي نعيم في كتابه الذي في الصحابة فما كان يجسر ، فلما قدم الحافظ عبد الغني أشار إليه بذلك ، قال : فأخذ على أبي نعيم نحوا من مائتين وتسعين موضعا ، فلما سمع بذلك الصدر الخجندي [ ص: 459 ] طلب عبد الغني وأراد هلاكه ، فاختفى .

                                                                                      وسمعت محمود بن سلامة يقول : ما أخرجنا الحافظ من أصبهان إلا في إزار ، وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة ، كانوا يتعصبون لأبي نعيم ، وكانوا رؤساء البلد .

                                                                                      وسمعت الحافظ يقول : كنا بالموصل نسمع " الضعفاء " للعقيلي ، فأخذني أهل الموصل وحبسوني ، وأرادوا قتلي من أجل ذكر شيء فيه فجاءني رجل طويل ومعه سيف ، فقلت يقتلني وأستريح ، قال : فلم يصنع شيئا ، ثم أطلقوني ، وكان يسمع معه ابن البرني الواعظ فقلع الكراس الذي فيه ذلك الشيء فأرسلوا ، وفتشوا الكتاب ، فلم يجدوا شيئا ، فهذا سبب خلاصه .

                                                                                      وقال : كان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق ، ويجتمع عليه الخلق ، فوقع الحسد ، فشرعوا عملوا لهم وقتا لقراءة الحديث ، وجمعوا الناس ، فكان هذا ينام وهذا بلا قلب فما اشتفوا ، فأمروا الناصح ابن الحنبلي [ ص: 460 ] بأن يعظ تحت النسر يوم الجمعة وقت جلوس الحافظ ، فأول ذلك أن الناصح والحافظ أرادا أن يختلفا الوقت ، فاتفقا أن الناصح يجلس بعد الصلاة ، وأن يجلس الحافظ العصر ، فدسوا إلى الناصح رجلا ناقص العقل من بني عساكر فقال للناصح في المجلس ما معناه : إنك تقول الكذب على المنبر ، فضرب وهرب فتمت مكيدتهم ، ومشوا إلى الوالي وقالوا : هؤلاء الحنابلة قصدهم الفتنة ، واعتقادهم يخالف اعتقادنا ، ونحو هذا .

                                                                                      ثم جمعوا كبراءهم ومضوا إلى القلعة إلى الوالي ، وقالوا : نشتهي أن تحضر عبد الغني ، فانحدر إلى المدينة خالي الموفق ، وأخي الشمس البخاري ، وجماعة ، وقالوا : نحن نناظرهم ، وقالوا للحافظ : لا تجئ فإنك حد نحن نكفيك ، فاتفق أنهم أخذوا الحافظ وحده ، ولم يدر أصحابنا فناظروه ، واحتد وكانوا قد كتبوا شيئا من الاعتقاد ، وكتبوا خطوطهم فيه وقالوا له : اكتب خطك فأبى ، فقالوا للوالي : الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم ، واستأذنوه في رفع منبره فبعث الأسرى فرفعوا ما في جامع دمشق من منبر وخزانة ودرابزين وقالوا : نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة الشافعية وكسروا منبر الحافظ ، ومنعونا من الصلاة ففاتتنا صلاة الظهر ، [ ص: 461 ] ثم إن الناصح جمع البنوية وغيرهم وقالوا : إن لم يخلونا نصلي باختيارهم صلينا بغير اختيارهم .

                                                                                      فبلغ ذلك القاضي ، وكان صاحب الفتنة ، فأذن لهم ، وحمى الحنفية مقصورتهم بأجناد ، ثم إن الحافظ ضاق صدره ومضى إلى بعلبك ، فأقام بها مدة ، فقال له أهلها : إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك ، فقال : لا ، وتوجه إلى مصر فبقي بنابلس مدة يقرأ الحديث ، وكنت أنا بمصر ، فجاء شاب من دمشق بفتاو إلى صاحب مصر الملك العزيز ومعه كتب أن الحنابلة يقولون كذا وكذا مما يشنعون به عليهم ، فقال-وكان يتصيد- : إذا رجعنا أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة ، فاتفق أنه عدا به الفرس ، فشب به فسقط فخسف صدره .

                                                                                      كذلك حدثني يوسف بن الطفيل شيخنا وهو الذي غسله ، فأقيم ابنه صبي ، فجاء الأفضل من صرخد ، وأخذ مصر وعسكر وكر إلى دمشق ، فلقي الحافظ عبد الغني في الطريق فأكرمه إكراما كثيرا ، ونفذ يوصي به بمصر فتلقي الحافظ بالإكرام ، وأقام بها يسمع الحديث بمواضع ، وكان بها كثير من المخالفين ، وحصر الأفضل دمشق حصرا شديدا ، ثم رجع إلى مصر ، فسار العادل عمه خلفه فتملك مصر ، وأقام ، وكثر المخالفون على الحافظ ، فاستدعي ، وأكرمه العادل ، ثم سافر العادل إلى دمشق ، وبقي الحافظ بمصر ، وهم ينالون منه ، حتى عزم الملك الكامل على إخراجه .

                                                                                      واعتقل في دار أسبوعا ، فسمعت أبا موسى يقول : سمعت أبي يقول : ما وجدت راحة في مصر مثل تلك الليالي . قال : وكانت امرأة في دار إلى جانب تلك الدار ، فسمعتها تبكي ، وتقول : " بالسر الذي أودعته قلب موسى حتى قوي [ ص: 462 ] على حمل كلامك " قال : فدعوت به فخلصت تلك الليلة .

                                                                                      سمعت أحمد بن محمد بن عبد الغني ، حدثني الشجاع بن أبي زكري الأمير ، قال : قال لي الملك الكامل يوما : هاهنا فقيه قالوا إنه كافر ، قلت : لا أعرفه ، قال : بلى ، هو محدث ، قلت : لعله الحافظ عبد الغني ؟ ، قال : هذا هو ، فقلت : أيها الملك ، العلماء أحدهم يطلب الآخرة ، وآخر يطلب الدنيا ، وأنت هنا باب الدنيا ، فهذا الرجل جاء إليك أو تشفع يطلب شيئا ؟ قال : لا . فقلت : والله هؤلاء يحسدونه ، فهل في هذه البلاد أرفع منك ؟ قال : لا ، فقلت : هذا الرجل أرفع العلماء كما أنت أرفع الناس ، فقال : جزاك الله خيرا كما عرفتني .

                                                                                      ثم بعثت رقعة إليه أوصيه به ، فطلبني فجئت ، وإذا عنده شيخ الشيوخ ابن حمويه ، وعز الدين الزنجاري فقال لي السلطان : نحن في أمر الحافظ ، فقال : أيها الملك القوم يحسدونه ، وهذا الشيخ بيننا -يعني شيخ الشيوخ- وحلفته هل سمعت من الحافظ كلاما يخرج عن الإسلام ؟ فقال : لا والله وما سمعت عنه إلا كل جميل ، وما رأيته . وتكلم ابن الزنجاري فمدح الحافظ كثيرا وتلامذته ، وقال : أنا أعرفهم ، ما رأيت مثلهم ، فقلت : وأنا أقول شيئا آخر : لا يصل إليه مكروه حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف ، قال : فقال : لا يؤذى الحافظ ، فقلت : اكتب خطك بذلك ، فكتب . [ ص: 463 ]

                                                                                      وسمعت بعض أصحابنا يقول : إن الحافظ أمر أن يكتب اعتقاده ، فكتب : أقول كذا ; لقول الله كذا ، وأقول كذا ; لقول الله كذا ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا ، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها ، فلما رآها الكامل قال : أيش أقول في هذا ، يقول بقول الله وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم !؟

                                                                                      قلت : وذكر أبو المظفر الواعظ في " مرآة الزمان " قال : كان الحافظ عبد الغني يقرأ الحديث بعد الجمعة ، قال : فاجتمع القاضي محيي الدين ، والخطيب ضياء الدين ، وجماعة ، فصعدوا إلى القلعة ، وقالوا لواليها : هذا قد أضل الناس ، ويقول بالتشبيه ، فعقدوا له مجلسا ، فناظرهم ، فأخذوا عليه مواضع منها : قوله : " لا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول " ، ومنها : " كان الله ولا مكان ، وليس هو اليوم على ما كان " ، ومنها مسألة الحرف والصوت ، فقالوا : إذا لم يكن على ما كان فقد أثبت له المكان ، وإذا لم تنزهه عن حقيقة النزول فقد جوزت عليه الانتقال ، وأما الحرف والصوت فلم يصح عن إمامك وإنما قال إنه كلام الله ، يعني غير مخلوق ، وارتفعت الأصوات ، فقال والي القلعة الصارم برغش : كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق ؟ قال : نعم . فأمر بكسر منبره .

                                                                                      قال : وخرج الحافظ إلى بعلبك ، ثم سافر إلى مصر إلى أن قال : فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه ، وقالوا : يفسد عقائد الناس ، ويذكر التجسيم ، فكتب الوزير بنفيه إلى المغرب ، فمات الحافظ قبل وصول الكتاب . [ ص: 464 ]

                                                                                      قال : وكان يصلي كل يوم وليلة ثلاث مائة ركعة ، ويقوم الليل ، ويحمل ما أمكنه إلى بيوت الأرامل واليتامى سرا ، وضعف بصره من كثرة البكاء والمطالعة ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث .

                                                                                      وقال أيضا : وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ما ظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره ، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب .

                                                                                      قلت : قد بلوت على أبي المظفر المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد ، وكان يترفض ، رأيت له مصنفا في ذلك ، فيه دواه ، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حيا ، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين ، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر ، والعلامة شمس الدين البخاري ، وسائر الحنابلة ، وعدة من أهل الأثر .

                                                                                      وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه ، نعم ، ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه ، ولو كف عن تلك العبارات ، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم ، فهو الأولى ، فما في توسيع العبارات الموهمة خير ، وأسوأ شيء قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين ، وأنه على الحق ، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء ، رحم الله الجميع وغفر لهم ، فما قصدهم إلا تعظيم الباري -عز وجل- من الطرفين ، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة ، وهذا هو مذهب السلف -رضي الله عنهم . [ ص: 465 ]

                                                                                      وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق ، ومحاسنه كثيرة ، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء ، ونبرأ من كل مجسم ومعطل .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية