الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر ( أم ) منقطعة لإضراب انتقالي . والاستفهام المقدر بعد أم مستعمل في التوبيخ ، فإن كانوا قد صرحوا بذلك فظاهر ، وإن كانوا لم يصرحوا به فهو إنباء بأنهم سيقولونه .

وعن ابن عباس : أنهم قالوا ذلك يوم بدر . ومعناه : أن هذا نزل قبل يوم بدر لأن قوله سيهزم الجمع إنذار بهزيمتهم ، يوم بدر هو مستقبل بالنسبة لوقت نزول الآية لوجود علامة الاستقبال .

[ ص: 212 ] وغير أسلوب الكلام من الخطاب الموجه إلى المشركين بقوله أكفاركم خير إلخ إلى أسلوب الغيبة رجوعا إلى الأسلوب الجاري من أول السورة في قوله وإن يروا آية يعرضوا بعد أن قضي حق الإنذار بتوجيه الخطاب إلى المشركين في قوله أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر .

والكلام بشارة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وتعريض بالنذارة للمشركين مبني على أنهم تحدثهم نفوسهم بذلك وأنهم لا يحسبون حالهم وحال الأمم التي سيقت إليهم قصصها متساوية ، أي نحن منتصرون على محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس رسول الله فلا يؤيده الله .

و ( جميع ) اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، وليس هو بمعنى الإحاطة ، ونظيره ما وقع في خبر عمر وعلي وعباس رضي الله عنهم في قضية ما تركه النبيء - صلى الله عليه وسلم - من أرض فدك . قال لهما : ثم جئتماني وأمركما جميع وكلمتكما واحدة ، وقول لبيد :

عريت وكان بها الجميع فأبكروا منها وغودر نؤيها وثمامها

والمعنى : بل أيدعون أنهم يغالبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأنهم غالبون لأنهم جميع لا يغلبون .

ومنتصر : وصف جميع . جاء بالإفراد مراعاة للفظ جميع وإن كان معناه متعددا .

وتغيير أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة مشعر بأن هذا هو ظنهم واغترارهم ، وقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه . فإذا صح ذلك كانت الآية من الإعجاز المتعلق بالإخبار بالغيب .

ولعل الله تعالى ألقى في نفوس المشركين هذا الغرور بأنفسهم وهذا الاستخفاف بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ليشغلهم عن مقاومته باليد ويقصرهم على تطاولهم عليه بالألسنة حتى تكثر أتباعه وحتى يتمكن من الهجرة والانتصار بأنصار الله .

[ ص: 213 ] فقوله سيهزم الجمع ويولون الدبر جواب عن قولهم نحن جميع منتصر فلذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها . وهذا بشارة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهو يعلم أن الله منجز وعده ولا يزيد ذلك الكافرين إلا غرورا فلا يعيروه جانب اهتمامهم وأخذ العدة لمقاومته كما قال تعالى في نحو ذلك ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا .

والتعريف في الجمع أي الجمع المعهود من قوله نحن جميع منتصر والمعنى : سيهزم جمعهم . وهذا معنى قول النحاة : اللام عوض عن المضاف إليه .

والهزم : الغلب ، والسين لتقريب المستقبل ، كقوله قل للذين كفروا ستغلبون . وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون .

ويولون : يجعلون غيرهم يلي ، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين ، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولونكم الأدبار .

والدبر : الظهر ، وهو ما أدبر ، أي كان وراء ، وعكسه القبل .

والآية إخبار بالغيب ، فإن المشركين هزموا يوم بدر ، وولوا الأدبار يومئذ ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففروا بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في الصحيح أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال ، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا .

وأفرد الدبر ، والمراد الجمع لأنه جنس يصدق بالمتعدد ، أي يولي كل أحد منهم دبره ، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن ، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تول واحدة ، وهذا الهزم وقع يوم بدر .

روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر جعلت أقول : أي جمع يهزم ؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبيء - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 214 ] يثب في الدرع ، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر اهـ ، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيهزم ويولي الدبر فإنه لم يكن يومئذ قتال ولا كان يخطر لهم ببال .

التالي السابق


الخدمات العلمية